يا له من موسمٍ عظيمٍ قد أقبل! إنها العشر الأوائل من ذي الحجة. لقد فضّل الله تعالى بعض الأيام على بعض، وجعل هذه العشر من أفضل أيام الدنيا وأحبها إلى الله تعالى. هي نفحاتٌ وهباتٌ يمتنُّ الله بها على عباده، ومواسم للطاعات يرتقي بها المؤمنون ويسدّون بها الخلل والنقص. في هذه الأيام المباركة، يكون العمل الصالح أحبَّ إلى الله من غيره، حتى الجهاد في سبيله لا يفضله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيءٍ من ذلك. فرائضُ هذه العشر أكثرُ ومضاعفَتُها أعظمُ من غيرها، ونوافلها أفضلُ من نوافل غيرها، لكن نوافلها ليست أفضل من فرائض غيرها. يا له من فضلٍ يشمل كل أنواع العبادات! ففي هذه العشر يجتمع الحج والأضحية والصلاة والصيام والصدقة. وتشمل هذه الأعمال: الصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والتضرّع إلى الله، وصلة الرحم، وبِرُّ الوالدين، وزيارة المرضى، واتّباع الجنائز، وإطعام الطعام، والإحسان إلى الجار، وغيرها من الأعمال التي يتعدّى نفعها. لقد أقسم الله تعالى بليالي العشر في القرآن، وهي عند جمهور المفسّرين والسلف ليالي عشر ذي الحجة. وهي أيضًا الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره عليها مما رزق من بهيمة الأنعام. وهي خاتمة أشهر الحج. ومن عظيم فضلها، أن فيها يوم عرفة، اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ النعمة على المسلمين. وفيها أيضًا يوم النحر، الذي هو أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى. لقد كان السلف الصالح أشدّ حرصًا على الاجتهاد بأنواع الطاعة في هذه العشر. كانوا يعظّمونها غاية التعظيم. فهذا سعيد بن جبير كان يجتهد اجتهادًا شديدًا حتى يكاد لا يُقْدَر عليه، ويقول: "لا تُطفِئوا سُرُجَكم ليالي العشر". وهذا عثمان النهدّي كان يقول: "أدركتُ يُعظّمون ثلاث عشرات: العشر الأوائل من ذي الحجة، والعشر الأخير من رمضان، والعشر الأوّل من محرّم". فيا أيها المسلم! بادر إلى اغتنام هذه العشر والأيام والليالي في التعبّد والأعمال الصالحة، وعمِّر الأوقات بالطاعات والقُربات. احذر الحذر من ضياع الأوقات فيها في النوم، والقيل والقال، والانشغال بمواقع التواصل والقنوات. إن هذا الموسم غنيمة وفرصة لا تعوّض. ومن أفضل الأعمال في هذه العشر الحج المبرور، الذي ليس له جزاء إلا الجنة. ويُسنّ الإكثار في هذه العشر من ذكر الله تعالى في جميع الأوقات والأحوال، قائماً وجالساً ومضطجعاً، راكباً وماشياً. وأكثر من التهليل والتكبير والتحميد. وينبغي رفع الصوت بالذكر في هذه الأيام، في البيوت والشوارع والطرقات والأسواق والمساجد وأماكن العمل. يُستحب إظهار التكبير عمومًا بين المسلمين، ولا بأس بإعلانه بالأجهزة الباثّة في الأماكن المختلفة. التكبير نوعان: مطلق ومقيّد. التكبير المطلق يكون في جميع أيام العشر ولياليها، وينتهي مع آخر يوم من أيام التشريق. أما التكبير المقيّد، فيبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاجّ (وللحاجّ من ظهر يوم النحر) وينتهي بعد عصر آخر أيام التشريق، ويكون بعد الصلوات المكتوبات. والعمدة في توقيتهما ما ورد عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف. ومن أشهر صيغه: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد". يُستحب صيام تسع ذي الحجة، وقد جاء صومها في بعض الأحاديث، وثبتت عن بعض السلف. الصيام كفّارة للخطايا والسيئات، وجُنّة من النار. وصوم يوم عرفة لغير الحاجّ سُنة نبوية عظيمة، فهو يُكفّر ذنوب سنتين: السنة التي قبله والسنة التي بعده. والأولى والأكمل في صيام النفل المعيّن (ومنه صوم عرفة) أن تكون النية من الليل ليكتمل الأجر. وينبغي تعاهد الأهل والأولاد ومن عليه ولاية بصيام يوم عرفة، وإيقاظهم للتسحّر. احرص على أن تغرب سيئاتك يوم عرفة مع غروب شمسه. من التجارة الرابحة في هذه العشر ختمة كاملة للقرآن مع التدبّر والتفهّم، فإن الله يعطي بكل حرف حسنة، الحسنة إلى عشر أمثالها، والمضاعفة في هذه العشر آكد. صلاة الليل أيضًا من أفضل الصلاة بعد الفريضة، ولا يقتصر اجتهاد المسلم فيها على رمضان. الصدقة من أجلّ الطاعات، وهي برهانٌ وحجةٌ على صدق إيمان صاحبها، يكون في ظلّها يوم القيامة. وهي تكفّر الذنوب وتطفئ غضب الربّ، وسبب للبركة وزيادة الرزق، ويُخلف الله على صاحبها. وهي في هذه العشر أفضل من غيرها. ومن أحبّ الأعمال إلى الله إدخال السرور على مسلم بصدقة أو صلة أو قضاء حاجة، فكيف إذا كان ذلك في هذه العشر؟!. وتفقّد أهل الحاجّ ورعاية أطفالهم والإحسان إليهم له أجرٌ عظيم، فمن جهّز حاجًّا أو خلفه في أهله، كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن العبادات العظيمة في هذه العشر الأضحية تقرّباً إلى الله تعالى بعد صلاة العيد، وهي من سنن الهدى. ويُسنّ لمن أراد الأضحية أن يمسك عن الشعر والأظفار من غروب شمس آخر يوم من ذي القعدة حتى يُضحّي. إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله الجنة! فلنُبادر إلى الأعمال الصالحة ولنتب إلى الله توبةً نصوحًا، بالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والندم عليها، والعزم على عدم العودة، وردّ المظالم إلى أهلها إن كانت متعلقة بآدميّ. ولنجعل هذه العشر بداية جديدة وعهدًا مع الله. من فقه المسلم أن يجمع في هذه العشر بين العبادات الخاصة به كالذكر والصلاة، والأعمال الصالحة والعبادات ذات النفع المتعدّي ليزداد نفعه ويعظم ثوابه. العمل الصالح واجتناب المعاصي في هذه العشر يربّي المسلم على تعظيم شعائر الله وحفظ حدوده، فهي عشرٌ في شهر حرام. واستثمار هذه المناسبة والتزوّد فيها من الطاعات والخيرات هو خير تربية للنفس التي لا تتكرّر، ليزداد الإيمان ويكون دافعًا للعمل طوال السنة. أخيرًا، فإن زوجاتنا وأولادنا أمانة في أعناقنا، فلنجتهد في تربية أولادنا على تعظيم هذه العشر وترغيبهم في الطاعة فيها، وتمرينهم على ذلك، وبيان فضلها لهم قبل دخولها ليستعدّوا، ولنكن قدوة لهم في تعظيمها. الغنيمة، فالغنيمة! العمل قبل نزول الأجل!. نسأل الله أن يوفّقنا والمسلمين إلى اغتنام مواسم الخير، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. والحمد لله ربّ العالمين.