نحن اللبنانيون أبناء اللايقين. وُلدنا فيه كما يُولد السمك في الماء، فلا يعرف أنّه يسبح في عنصر غريب. منذ اللحظة الأولى التي فتحنا فيها أعيننا على هذا البلد، وجدنا أنفسنا في مهبّ احتمال دائم، في انتظار خبر جديد، في ترقّب صاعقة، في استباق مصيبة أخرى، حتى صار اللايقين قدرنا الأوحد، وملح حياتنا المرّ.
نستيقظ كل صباح على سؤال: كيف سيكون النهار اليوم؟ هل يميل بنا إلى ضفة الأمل أم يرمي بنا إلى قاع اليأس؟ نحن متأرجحون أبداً، كمهرّجين في سيرك بلا جمهور: ضحكنا ليس ضحكاً، والقلق في صلب جيناتنا. تراوح مشاعرنا بين تفاؤلٍ هشّ لا يلبث أن يتبخّر، وتشاؤمٍ عنيد يتشبّث بنا مثل ظلّ لا يفارقنا. بين خوف لا منطقي يتسرّب إلى عروقنا، وجذل مصطنع نخلقه لنكابر على بؤسنا. بين لا مبالاة تُخدّر أعصابنا، وحماسة عابرة توهمنا أن شيئاً ما سيتغيّر الى الأفضل.
حتّام؟ حنّام نظلّ عالقين في هذه الدوامة المسمومة التي تبتلع أنفاسنا وتستهلك أحلامنا؟ متى نصحو على وطن لا يربط مستقبله بعبارة: "إذا ما صار شي"؟ تلك الـ "إذا" التي صارت وصيّة سرّية تورَّث جيلاً بعد جيل، تذبح قدرتنا على الحلم والتخطيط، وتحوّل الغد إلى جدار ضبابي لا يُمسك.
نحن اللبنانيون أبناء الاحتمال، معم، رهائن الانتظار. لكن ما أصعب أن تكون حياتك مؤجّلة، ومشاريعك معلّقة، وأحلامك مشروطة بحدثٍ مجهول أو بقرارٍ من جهة تتحكم بك من خارج. كأننا نعيش على أرض زلقة، لا صلابة فيها ولا أمان. مع كل خطوة نخطوها، ينبغي لنا أن نحسب حساب الانهيار الممكن تحت أقدامنا.
هذا هو الواقع منذ ولادتي. لم أعرف يوماً طمأنينة التفكير بالغد كما يعرفها آخرون في بلاد أخرى. لم أعرف هبة الاستقرار البسيط: نعمة أن أقول "غداً" من دون أن أرتجف. وكأنّ الغد في لبنان ليس وعداً بل تهديداً، ليس أفقاً بل فخاً.
ومع ذلك، ما زلنا نحلم. نحلم رغماً عنهم. نحلم رغماً عن خرابهم وموتهم. نحلم لأنّ الحلم، ولو كان جريحاً، ولو كان احتمالاً، هو فعل البقاء الوحيد المتاح لنا في وجه هذا القدر الذي يصرّ أن يظلّ ملعوناً.