موقف نعيشه جميعا، بأشكال مختلفة: حين نلتقي بشخص لا نعرفه، غالبا ما يقدم نفسه ونقدم أنسفنا بمهنتنا: أنا فلان، طبيب، أنا محامية، أنا أستاذ، أنا نادل في مطعم، أنا محاسبة... كأنّ المهنة صارت بطاقة التعريف الوحيدة التي تقدمنا للآخرين.
لكن، هل نحن فعلاً مجرد مهن؟ هل تُختزل إنسانيتنا ومسارنا في وظيفة أو منصب؟
المثير للانتباه أنّنا نادراً ما نعرّف أنفسنا بما نحب، بما يمنح لحياتنا معنى. قلّما نسمع أحدنا يقول، عند أول تعارف: "أنا أعشق الموسيقى"، أو "أنا أحب القراءة"، أو "أعشق رياضة الجري".
لماذا صار تعريف الذات وتعريف الآخرين يمرّ عبر مِهنهم، حتى في الفضاءات الخاصة؟ أقدم لك صديقتي فلانة، وهي مهندسة. أقدم لك صديقي فلان، وهو مدير مالي في شركة ضخمة.
أنا هي أنا. بنفس ملامح الوجه ونفس الروح ونفس القيم ونفس السلوكيات. لكني شبه متأكدة أن ردة فعل من أقابلهم لأول مرة ستتغير إذا ما قدمت نفسي كطبيبة أو عاملة نظافة أو أستاذة جامعية أو نادلة في مقهى.
صحيح أنّ المهنة تحتلّ مكانة أساسية في حياتنا. هي مصدر رزق، وأحياناً مصدر فخر واعتزاز وتتويج لمسار من الاجتهاد. لكن، حين تتحول إلى مرآة وحيدة تعكس من نحن، فهذا يُفترَض أن يجعلنا نتساءل عن صورتنا أمام أنفسنا وأيضا كيف ننظر للآخرين.
المسألة أعمق من مجرد تعريف بالنفس. إنها تعكس نظرة اجتماعية تجعل قيمتنا مرتبطة بشكل شبه حصري بما ننتج اقتصادياً، لا بما نعيشه إنسانياً. المجتمع لا يسأل عمّا يفرحنا، بل عمّا نشتغل به وبشكل غير مباشر، عن مكانتنا المادية والمالية.
ربما حان الوقت أن نعيد النظر. أن نجرّب تقديم أنفسنا بما نحب لا بمهنٍ، تحيل ضمنيا على كمْ نملك في رصيدنا البنكي. أن نجرؤ على القول: أنا إنسان يستمتع بالمشي وقت الغروب، أو أنا عاشقة للرسم، أو أنا شخص يحب الطبخ، أو قارئ نهم يجد في الكتب متعته.
بهذا، نصالح أنفسنا مع حقيقتنا الأعمق: نحن لسنا فقط مهناً. نحن تجارب، شغف، وأحلام. المهنة جزء منّا، نعم، لكنها ليست كل ما نحن.