نحن نهرب. دائماً نهرب. لا بل نحن خبراء في الهروب.
نهرب من الآخرين، من وجوههم التي تُرهقنا، من أصواتهم التي تُذكّرنا بما لا نريد. نهرب من الأماكن التي تختزن في جدرانها رائحة خيباتنا، من الشوارع التي تعرف تفاصيل عجزنا أكثر مما نعرفه نحن. نهرب من المواقف، من اللحظات الحرجة التي تعرّينا، فنختار الصمت بدل المواجهة، والاختفاء بدل الكلام. نعم، نهرب. ونُقنع أنفسنا بأن ذلك شجاعة.
لكن، ماذا عن الهروب المستحيل؟ ماذا عن الهروب من أنفسنا؟
من يخلّصنا من هذا الكائن الذي يسكن صدورنا ويلاحقنا في كل مكان؟ من يوقف سيل الأفكار الذي لا يرحم، يتدفق كجنازة في منتصف الليل، يحمل في نعشه ذكريات قديمة، وجروحًا لم تندمل؟ من يضع سدادة في آذاننا كي لا نسمع ضجيج الهواجس، تلك الهمسات السوداء التي تقول لنا كل ما لا نريد أن نصغي إليه؟
نحن السجناء، والسجّانون نحن. الزنزانة داخل الرأس، والمفتاح في يدنا. لكننا نضيّعه عمدًا، ونبقى ندور، ندور، كأرانب مذعورة في قفص معدني.
الهروب من الآخر ممكن: نغيّر رقم الهاتف، نغلق الأبواب، نختفي. الهروب من المكان ممكن: حقيبة، جواز سفر، وتذكرة ذهاب بلا عودة. الهروب من الموقف ممكن: ابتسامة باردة، أو انسحاب أنيق. لكن الهروب من الذات؟ من المرآة الداخلية التي تتبعنا؟ من ليلنا الذي يعرّي كل شيء؟ من أحلامنا التي تُكمل ما لم يجرؤ النهار على قوله؟ هنا المعركة الحقيقية.
كم مرة تمنّيتُ أن أخلع رأسي كما يُخلع معطف، أن أضعه في زاوية وأنام بلا أفكار، بلا صور، بلا ماض، بلا مخاوف! كم مرة تمنيتُ لو أن ذاكرتي غابة محترقة، لو أن رأسي يفرغ من هذه المحاكمات المتواصلة، من هذا الراديو الذي لا ينطفئ!
لكنني أعرف أن الراديو لا يتوقف. الأفكار لا تسكت. الأصوات لا تموت. ما يحدث فقط أننا نتعلم كيف نغيّر الموجة. أن نجعل الضوضاء موسيقى، أن نُحوّل الرعب إلى قصيدة، أن نستبدل الخوف بالكتابة، أو بالصراخ، أو بالرقص، أو حتى بالجنون.
الهروب ليس حلا. الحل هو المواجهة. الحل أن ندخل إلى قلب الزنزانة ونكسر المرآة. أن نضع أيدينا على جراحنا بدل أن نخفيها. أن نصغي إلى الضجيج. أن نعترف: نعم، نحن خائفون. نعم، نحن مجروحون. نعم، نحن هشّون. لكننا، رغم ذلك، سنواصل التنفس. سنواصل العيش.
النجاة لا تكون إلا هكذا. لا خلاص إلا من خلال مواجهة الوحش وترويضه، حتى يتحوّل إلى كائن أليف.
لا سلام، لا طمأنينة إلا بعد المرور في قلب العاصفة.