في هذه الحلقة من حكايات إفريقية، نستضيف الباحث والمفكر الإريتري الدكتور جلال الدين محمد صالح، في رحلة ممتدة إلى قلب إريتريا، البلد الذي شكّلته خرائط الاستعمار ومُزجت شعوبه التسع بلغات متباينة وهويات حضارية مختلفة.
نبدأ من اسم "إريتريا" نفسه، المشتق من التسمية اليونانية سينوس إريتريوس، مرورًا بالاحتلال الإيطالي الذي جمع شعوبًا لا يفهم بعضها بعضًا، في دولة واحدة تحت علم واحد.
من هنا انطلق الصراع حول الهوية الإريترية، وبرزت قضية اللغة العربية في إريتريا باعتبارها أحد أبرز مكوناتها الثقافية، لا بوصفها لغة مستوردة، بل لغة حافظ بها الإريتريون على القرآن، وعلّموا بها أبناءهم، وتواصلوا بها في الأسواق والخلوات.
يمضي الدكتور جلال الدين ليأخذنا في جولة مذهلة داخل مشهد لغوي فريد، حيث يكشف لنا عن اللغات الحميرية القديمة مثل التجرية والتقرينية، ويوضح كيف تنتمي هذه اللغات إلى اللسان اليمني الجنوبي، متقاربة في تركيبتها وبنيتها من اللغة العربية.
يقدم أمثلة حية من المفردات والمخارج والأوزان، ويبيّن كيف أن الفهم العميق لهذه اللغات يكشف عن صلات وثيقة بين جنوب الجزيرة العربية والقرن الإفريقي.
ولا يبتعد الحديث عن السياسة كثيرًا، إذ يدخل الضيف في تحليل دقيق لصراع اللغة الرسمية في إريتريا، ويتحدث عن فترة اضطهاد اللغة العربية في ظل الحكم الإثيوبي، ومحاولات فرض اللغة الأمهرية، وهو ما فجّر الثورة المسلحة عام 1961.
يوضح كيف تبنّت الحكومة لاحقًا تقسيمات عرقية تقوم على أساس اللغة، ما ولّد توترًا بين الرغبة في التعدد، والخطر على وحدة المجتمع.
ثم نرافق الدكتور جلال الدين في سرد شخصي دافئ عن نشأته في مدينة كرن، حيث تعلّم الأحرف الأولى في خلوة قرآنية على الرمل، بحبر مصنوع من بقايا البطاريات، واحتفل بحفظه لأجزاء من القرآن بما يُعرف بـ"الشرافة".
يحكي عن تأثير التعليم الإسلامي في إريتريا، وعن صراع والده مع المنصرين في الأرياف، وتأسيسه لمؤسسة "أصحاب اليمين" لمقاومة حملات التنصير في إفريقيا.
تمضي الحلقة عبر محاور اللغة، والسياسة، والدين، والتعليم، لتشكل فسيفساء نادرة من المعرفة والهوية.
إنها أكثر من مقابلة، إنها سيرة أمة تُروى بلغة شاعر وذاكرة مقاتل، حيث تتداخل الأسطورة بالتاريخ، وتبقى اللغة العربية- رغم محاولات التهميش -قلبًا نابضًا للثقافة الإريترية، وجسرًا يربط بين العرب والقرن الإفريقي