الشخصيّة هي القدر: قالها هيراقليطس منذ قرون، وكأنّه كان يشعل نارًا في فم الزمان.
الشخصيّة هي القدر إذاً بحسب هيراقليطس. ليست الصدفة، ولا الجينات، ولا البيئة. ليست الحروب، ولا المنفى، ولا الغربة، ولا حتى الحب، بل هذه الكتلة الفوضوية من الانفعالات والعناد والتوق والجروح المكوّنة لما يسمّونه "شخصيّتي". هذه، إذاً، هي التي تقودني إلى الهاوية أو النّجاة.
حسنًا، يا هيراقليطس، سأقبل لعبتك. لكن دعني أُعيد تعريف الشخصية قبل أن أسلّمها مفاتيح قدري. لأنّ الشخصية، في عرف المجتمعات، تعني أن تلبس القناع الذي صُنع لك منذ الطفولة: هذه هي "الفتاة الطيّبة"، هذا هو "الذكيّ الصموت"، هناك "الحساس الحالم"، هنا "الصبورة القوية"، وهلم. يسمونها "صفات"، لكنها في الحقيقة أقفاص. فإن صدّقناها وخضعنا لها، سوف نصير أسراها. وإذا ما أسرتنا، آنذاك يصير قدرنا سجناً.
لكن ماذا لو مزّقنا القناع وتمرّدنا على الاتيكيتات التي تلصق علينا؟
ماذا لو تجرّأتِ يا سيدتي على أن تكوني امرأة تُبدّل جلدها كلّ صباح؟
ماذا لو رفضتَ يا سيدي أن تُختزل في سمة، أو تُعلَّب في تصنيف؟
ماذا لو كانت شخصيّتنا ورشة يوميّة متواصلة، لا شكلًا نهائيًّا جامداً؟ ألن يصبح قدرنا آنذاك من صنع أيدينا، لا من طباعنا الثابتة؟
للعلم أنا لا أرفض فكرة هيراقليطس. أنا فقط أرفض أن تُختزل "الشخصية" في قالبٍ اجتماعي، أو "القدر" في مصير مرسوم سلفاً. أؤمن بشخصيّة تأكل نفسها لتُعيد خلق نفسها. شخصيّة تُخطئ وتصحح أخطاءها بدل أن تخضع. شخصية تثور، وتتهوّر، وتنكسر، لكنها تنهض وتمشي من دون أن تنظر الى الوراء.
فإذا كانت هذه هي ماهية الشخصيّة، آنذاك نعم، فلتكن هي قدري. فليكن قدري نارًا تضيء لا رمادًا يُطفئ. فليكن قدري ألا أكون "أنا" ساكنة، بل كلّ مرّة نسخةً مني أكثر جموحًا ممّا سبق.
الشخصية هي القدر؟ لا بأس. لكن تذكّر، أيّها الفيلسوف هيراقليطيس، أن بعض الشخصيّات لا يُكتب لها قدرها، بل هي تكتبه بنفسها، وترفض أن يُروى إلا بصوتها.
وأنا من هؤلاء.