ثمة من يعتبر الصمت انسحاباً، أو علامة ضعف. بالنسبة إليّ، الصمت لغة أخرى لا يتقنها إلا من فهم عمق الأشياء. هو تلك الوقفة بين جملتين، التي تحمل ما لا تقوله الكلمات. هو المسافة التي نتركها للآخر كي يعبّر، دون أن نسرق منه لحظة البوح. في زمنٍ صار فيه الصوت الأعلى هو المنتصر، يصبح الصمت موقفاً، بل بطولة.
في عالم التواصل الفوري، والردود السريعة، والآراء المتدفقة من كل حدب وصوب، كم نُخطئ حين نظن أن المشاركة تعني الكلام فقط. الإصغاء فعل وجودي. أن تصغي يعني أن تؤمن بأن للآخر ما يستحق أن يُقال ويُفهم. أن تصغي يعني أن تؤجل أنانيتك قليلاً، وتفسح المجال لغيرك ليكون مسموعاً، وموجوداً.
الصمت لا يعني الغياب، بل يعني أن نحضر بعمق. أن نراقب، أن نتمعن، أن نمنح عقولنا فرصة أن تهضم قبل أن تنطق. فالكلمة التي تخرج بعد تفكّر، تكون أصدق. والنقاش الذي يبدأ بعد صمت، يكون أنضج. أما من يتكلم باستمرار، فهو غالباً لا يَسمَع، ولا يُسمَع.
أحياناً، نصمت أيضاً لأن الكلام لا يكفي. لأن ما نشعر به لا يتّسع له لسان. وأحياناً، نصمت لأن اللحظة أقدس من أن تُقطع بضجيج. وهناك صمت الحب، وصمت الغضب، وصمت الحكمة. ولكلٍ منها لغته.
أن تتكلم أقل، لا يعني أنك تعرف أقل. بل قد يعني العكس: أنك تعرف ما يكفي لتختار متى تقول، وماذا تقول، ولِمَن تقول. في النهاية، لا تُقاس قوة الإنسان بارتفاع صوته وبكثرة كلامه، بل بقدرته على الصمت حين يُستفز، وعلى الإصغاء حين يضجّ من حوله كل شيء. فلنختر كلماتنا بتروّ، ولنصمت حين يكون الصمت أبلغ من كل بيان.
قال سقراط يوماً: "كلما قلّ كلامك، كلما استمع الناس إليك أكثر". هذه ليست مجرد حكمة، بل حري بها أن تكون صفعة خفيفة توقظ وعينا في عالمٍ تفيض فيه الضوضاء، ويضيع المعنى.