في المقهى-المكتبة الذي افتتحته مؤخراً في شارع مونو الحيوي في بيروت، دأبتُ على تنظيم لقاءات ثقافية وأخرى ترفيهية. ولكن سرعان ما لاحظت أن الأنشطة الترفيهية تجذب الحضور أكثر بكثير من الأنشطة الثقافية.
كان الاكتشاف محبطاً في البداية، حتى ولو كان متوقّعاً، محبطاً خصوصاً بالنسبة الى كاتبة تعشق كل ما له علاقة بالكتب والفكر، رغم افتتانها ايضا بعالم السهر. ولكنني سرعان ما أدركت أنّ ما اعتقدتُه خيبةً ربما يكون دليلاً على شيء آخر… شيء أكثر عمقاً مما يبدو على السطح.
قد يبدو للوهلة الاولى ميل الناس الى الرقص والضحك والغناء أكثر من القراءة والنقاش، مؤشراً الى انحدار ذوق أو فتور فكري، ولكنني اليوم أميل إلى تفسير أكثر تعاطفاً. اللبنانيون متعبون. مستنزفون. مثقلون بالهمّ والقلق والخسارات. لا وقت لديهم لترف التفكير، لأنّ التفكير بات مؤلماً. لأنّ مجرّد الجلوس مع الذات – ناهيك بالحوار معها – بات ترفاً قاسياً لا يطيقونه.
من هنا قد نفهم لماذا يميل الناس الآن إلى كلّ ما هو خفيف. إلى الكوكتيلات والموسيقى والضحك العالي. لا لأنهم سطحيون بالضرورة، بل لأنهم بحاجة إلى متنفسٍ من الألم المزمن الذي صار خبزهم اليومي. الرغبة في الترفيه ليست دليلاً على تفاهة، بل أحياناً تكون صرخة حياة. مقاومة ضد الخدر. وسيلة للقول: "نحن ما زلنا هنا، رغم كل شيء".
من السهل أن نُدين هذا الهروب الجماعي من "الثقافة" بمعناها التقليدي، لكن ربما يجب أن نعيد النظر في تعريف الثقافة نفسها. ماذا لو كانت الأغنية الجماعية نوعاً من الطقس الشفائي؟ ماذا لو كانت الرقصات طريقة جسدية لفكّ التوتر؟ ماذا لو كانت "الضحكة" التي نسمعها في أمسية هي في الحقيقة أشبه بدمعة مقلوبة؟
في بلدٍ مثل لبنان، حيث يُطلب من المواطن أن يكون بطلاً في كل لحظة، وحيث تُختَزل الحياة في النجاة، تصبح اللذة فعل تمرّد. يصبح الترفيه شكلاً من أشكال السياسة اليومية. الثقافة لا تسكن فقط في الكتب والنقاشات، بل أيضاً في الهروب منها أحياناً، حين تكون الحياة قاسية أكثر من أن تكون قابلةً للاحتمال.
لهذا، لم أعد أُميّز بين "ثقافي" و"ترفيهي" كما كنت أفعل. كل لقاء إنساني، صادق، متكامل، يشفي بطريقةٍ أو بأخرى، هو فعل ثقافي. كل رقصة من قلبٍ موجوع هي بيان وجود. وكل قهقهة تُطلق في المساء، هي طريقة غير مباشرة لنقول: نحن ما زلنا نحبّ الحياة، حتى لو لم تعد تحبّنا.