هذا أمر غريب. أن تصحو من نومك على منبّه الهاتف، لا على صراخ طفلك تحت الأنقاض. أن تنزعج من زحمة السير، لا من أن ازدحام الجثث في ثلاجات لم تعد تكفي. أن تفكر بما ستأكله في وجبتك الثالثة، بينما هناك من يُدفنون وهم جائعون
هل هذا أمر غريب، حقًا؟
أن يعيش الناس حياتهم “بشكل طبيعي”، يتسوّقون، يضحكون، يخططون للعطل، بينما أبناء جلدتهم ولغتهم وتاريخهم، وفي غزة تحديدًا، تُباد عائلات بأكملها، تُجتث البيوت من جذورها، ويُذبح الأطفال بعشرات الالاف، يمزقهم الصاروخ الإسرائيلي وتطحنهم الجدران, لا لشيء سوى لأنهم فلسطينيون.
في غزة، الموت لم يعد حدثًا مفاجئًا، بل روتينًا يوميًا.
تقول أم خالد من مخيم الشاطئ:
“ كل يوم في شهيد، كل يوم في قصف، كل يوم في وداع. بنتي الصغيرة بتصحى بتسألني: اليوم الدور على مين؟!”
تكتب فتاة اسمها سماح على وسائل التواصل من وسط غزة:
“أصعب شي، إنك تضلّ عايش بعد ما تموت روحك ميت مرة. شفنا أطفال ممزقين، أمهات تودّع أولادها كأنها بتحاول تحفظ ملامحهم قبل ما يصيروا رماد.”
الغريب أن العالم يرى، يسمع، يعرف، ثم يكمل يومه.
هل أفقد تكرار الصور أثرها، أو لعلّ تركمها حوّلها إلى مشاهد نمطية على الشاشات، كأنها جزء من مسلسل طويل لا نهاية له.
لكن، هل فعلاً “يعتاد” الناس على الإبادة؟
هل تعني كثرة المجازر أنها صارت “أقل بشاعة”؟
الجواب مرّ، لكنه واقعي:
نعم، يعتاد الناس، ولكن ليس لأنهم بلا ضمير، بل لأنهم مرهقون، مشوشون، خائفون من عجزهم.
أصبحوا يمررون الأخبار على عجل كي لا ينهاروا، أو ربما كي لا يشعروا بأنهم خونة لصمتهم.
بول سلوفيك باحث في علم النفس كتب في مقال عن (التبلد النفسي) "إن أعداد الوفيات المعلنة لا تعدوا كونها إحصاءات جافة، تجفف دموع البشر لا تثير العاطفة او الإحساس وبالتالي تفشل في تحفيز أي فعل"
ومع ذلك، الكثيرين يختارون أن يقاوموا (الإرهاق التعاطفي) وألّا يعتادوا.
هناك من يبكي كل مرة كأنها الأولى، يغضب كل مرة كأنها النهاية، يكتب، يصرخ، يتبرع، ينشر، يقاطع، يحتج، لا ليغير العالم كله، بل فقط ليبقى إنسانًا.
يجب أن ننشر قصص الضحايا لأنهم ليسوا أرقاماً
"إذا كان لا بد أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت لتروي حكايتي"
ما زال هذا الأمر غريب،
ينجو البعض بأجسادهم فقط لأنهم ليسوا هناك.
لكن الأغرب، أن أكثرهم صامتين بما يكفي أن تبقى المقتلة مستمرة.