تخيفني، أحياناً، بعض الاكتشافات المسمّاة "علمية". تخيفني لأن الجديد منها قد يطيح بما سبقه وحتى ينقضه. وقد شهدنا ذلك مرارا خلال العقود الماضية. اذ تظهر فجأة دراسة تشيد بفوائد مادة معينة، ثم تظهر بعد مدة دراسة أخرى تفيد بأن المادة إياها مضرة، وهكذا دواليك.
مناسبة هذا الحديث اليوم، بحثٌ جديد اطّلعت عليه حول الغرائز الجندرية المزعومة. اذ طويلاً تحدّث علم النسل عن غريزة "بناء العش" لدى الأنثى، وغريزة "الصيد" لدى الذكر. أي أن العلم كان يدّعي أن الأنثى، بغريزتها، تبحث عن البيت والأمان، والرجل، بغريزته، يبحث عن المغامرات والطرائد. هذا ما سمعناه مراراً وتكراراً في دروس العلوم الحيّة وقرأناه في الصحف والمجلات العلمية. ولكن، هاكم المفاجأة: أثبتت الدراسات الحديثة أن هذه الفرضية خاطئة، ليس فيها أي شيء من الصحّة. لنفكّر معاً للحظة كم سمّمت هذه النظرية، وذكوريتها الجلية، من الأجيال والعقول والروابط على مرّ الزمن، قبل أن يَثْبُت بطلانها الآن؟
ثم حدّثوا ولا حرج عن الاكتشافات المرتبطة بالطب وصحة الإنسان. هنا بحث يزعم أن الأفوكادو مفيد، وهناك دراسة تؤكد أنه يزيد نسبة الدهون في الدم. هنا لقاح يحمي من مرض خطير، ثم يتبدّى أنه يزيد من احتمالات الإصابة بأمراض أكثر خطورة. هنا طبيب يؤكد أن جسم الإنسان غير مؤهل لهضم اللحوم، وهناك طبيب آخر يثبت أن النظام الغذائي النباتي يلحق أضراراً هائلة بالبنية. قالوا إن السكر سم قاتل فاستبدلوه بالمحليات الصناعية، ثم اكتشفنا أن المحليات الصناعية تتسبب بالسرطان. وهلم جرّاً. لكأننا في غابة لا قانون فيها ولا دستور، وحياتنا رهن لعبة نرد، إما تصيب وإما تخطئ. أما شرط البقاء فالمصادفات، وقدرتنا على التعايش مع كل هذه التناقضات التي تعصف بأقدارنا وأجسادنا. تناقضات تغذيها، حصراً تقريباً، الديناميات الاقتصادية والمالية لشركات كبرى تتحكّم بما نأكل ونشرب ونستهلك وسواها.
كيف الخلاص من هذا العبث؟ هو يكمن في رأيي في قدرتنا على مقاربة كل ما يقال لنا بقدر عال من التشكيك، خصوصاً عندما يصير موضة منتشرة، وربما أيضاً في العودة الى نمط عيش أسلافنا، أي الحياة "على البركة" وبلا كثير ضبط. هذه بدورها لعبة نرد، لكن النرد في الأقل هو هنا في أيدي الطبيعة، لا أصحاب المصالح.