logo
episode-header-image
Jan 2023
9m 55s

حضارة الجوع

تجربتي
About this episode

حضارة الجوع - شروق المحمادي

حضارة الجوع – شروق المحمادي (shrooqalmehmadi.com)

الحضارات السابقة كانت تصل إلى حد معين من الامتلاك ثم تستقر عنده.

أما في الحضارة المعاصرة: فرغبات لا محدودة، وشهية مفتوحة لا تُغلق ولا تُسد، ولا تشبع، إنها حضارة الجوع المستمر.

بين ما نملكه وما نتطلع إلى امتلاكه فجوة كبيرة تسبّب: تأجيل الرضا والإشباع.

فلن يرضى المعاصر عن نفسه ولا عن حياته حتى يمتلك جهاز من نوع…، ونجفة مذهبة بسعر…، وسفرية إلى ١٠٠ دولة.

وبعد عودته من رحلته الشاقة الطويلة: يشتكي من صعوبات الحياة، وفراغ الروح وكآبتها.

كانت الحضارات القديمة تبحث عن راحة البال وطمأنينة الروح، وإذا حققت الطمأنينة اكتفت وتوقفت عن بحثها. بل مقتت امتلاك الكثير من الأشياء.

وصلنا إلى حضارة جائعة فاتحة فيّها تستقبل كل شيء.

لا تيأس من التملك،

لا تيأس من البحث،

ورغم امتلاكها الكثير، كأنها ما امتكلت، كأن لم تُغنَ بالأمس.

ما تزال ضائعة في بحثها لا تدري أصلًا: عما تبحث؟

عانى الفرد المعاصر من غياب المعنى، والطمأنينة وضغطت عليه الأسئلة الوجودية: هل هناك آخرة؟ هل هناك رب؟ من أنا؟ أين أذهب؟ ما مصيري؟

ما مستقبلي؟ أين أنا؟ أين أتجه؟

ولينسى تلك الأسئلة، ويهرب من ضغطاتِها الملحّة، راح يتعلم تقنيات:

عيش اللحظة، التنفس، الوعي، اليوجا.

ليقطع صلته بالسياق التاريخي والمستقبلي، ويتأمل أحاسيسه الجسدية ويركز عليها فقط باسم الوعي والتنفس والحاضر:

شم دخان المدفأة، امضغ قطعة اللحم بتأنٍ، استمع إلى صوت التكييف، وانسَ وجودك وتخلص منه.

وبعد انتهائه من تلك الطقوس الغريبة والشموع تضوِّء ليلتَه الضائعة..

تعود الأسئلة، ليعود جوعه من جديد فيهرب منها إلى تقنيات أخرى: الاستهلاك، البحث عن حب، الرياضة المفرطة، إفراط التلقي الإعلامي (البرامج، الصحف، الأغاني والأفلام)، إدمان الألعاب، وأي مَكتل يلقي نفسه فيه، ولو كان تعذيبًا للجسد كالحرمان الغذائي والمشي على الجمر، وجرح اليد، وحشوها بالأصباغ.

في حضارة الجوع: يصارع الفرد كي يصعد من طبقة إلى طبقة وحتى إن نجح فجوعه يتحرك نحو روائح جديدة،

لقد بقيت لنا طبقة أخيرة.

وعندما يفشل في الصعود، يكتئب ويشعر بالعجز والوحدة. وإن عَلَى عرش السماوات وأوتي ملء الأرض ذهبًا؛ ما ملأت عينه وما يرضى.

حضارة الجوع قائمة على فقدان الإشباع العاطفي والروحي والاجتماعي.

فيعوّضها الفرد بالبحث المدمن عن الحب والتنقل من علاقة إلى أخرى، والاستهلاك المبني على رغبات عاطفية خيالية بحتة، والإغراق في ذاته بتسميات: تطوير الذات واكتشافها المعززة لفردانيته الناقصة. كل هذا عساه أن يشبع روحه الضائعة، وأجنحته الاجتماعية المقصوصة.

هذا الفراغ الذي يشعر به رغم امتلاكه كل شيء ما هو إلا شكل من أشكال الجوع الروحي والعاطفي الاجتماعي العميق، وفقدان معنى الحياة المطمئن (الإله والخالق)، وهشاشة يعانيها في الروابط الاجتماعية.

يبدو أن من يمتلك الكثير من الأشياء، ليس لديه أكثر مما يملكه، وليس لنفسه شيء آخر يعبّر بها عنها سوى الألوان الصارخة، والأصوات العالية، مع خفوت الروح، وخفقان القلب، والجوع المستمر.

بكل صراحة ووضوح:

لن يُشبع هذه الحضارة الجائعة إلا الإيمان بالله وأن نرى فيه معنى حياتنا النهائي الكامل.

الإيمان بالله والآخرة، والعمل من أجل حياة ثانية، وبناء العلاقات الاجتماعية، سيضع الحدود المستقرة والمشبعة والراضية الهانئة لجوعنا اللامحدود والمتقلب.

Up next
Aug 10
الجسد في مجاعة المعنى .. كيف ننجو حين لا نأكل ؟
‏الانسان العــاري 
13m 43s
Aug 4
هاجس الفناء.. العناية الصهيونية بتاريخ الحملات الصليبية
‏هاجس الفناء.. العناية الصهيونية بتاريخ الحملات الصليبيةبقلم: د. شاكر مصطفى - رحمه الله 
15m 14s
Aug 1
هل ما جرى لنا جرى لأحد من قبلنا ؟ أم أننا معاقبون بما لم يعاقب به أحد من قبلنا ؟
‏هل ما جرى لنا جرى لأحد من قبلنا ؟ أم أننا معاقبون بما لم يعاقب به أحد من قبلنا ؟بقلم الشيخ : محمد بن الأسطلمن علماء غزة 
15m 16s
Recommended Episodes
Dec 2021
الشعر الطويل.. ثروة وثورة!
‏ماهي أساطير الشعر الطويل في مختلف حضارات العالم، ما دلالته؟ وكيف شكل امتدادا جسديا للروح وجسد مظاهر المجد والفخر؟ ولما اعتبرت حضارات قديمة قصره ضعفا وتعذيبا للذات؟ للاستماع https://podfollow.com/1533576653 
15m 26s
Apr 2016
برتراند راسل - ما الذي عشت من أجله؟
‏صوت أحمد قطليش ثلاثة مشاعر .. بسيطة لكنها غامرة بقوة، تحكمت في حياتي: اللهفة للحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لا تطاق لمعاناة البشر. هذه المشاعر، مثل العواصف العظيمة، عصفت بي هنا وهناك، في مسار صعب المراس، على محيط عميق من الكرب، يصل إلى حافة اليأس البعيدة. سعيت للحب، أولًا، ... Show More
3m 11s
Aug 2022
فن العزلة
‏هذه الأيام التي تتوالى علينا كظلام دامس و المرهقة إلى حد نكاد نجزم بأنها النهاية، نهاية الطريق و المشوار. نحاول جاهدين البحث عن بصيص من الأمل يعدنا بالنور من جديد لكن من دون جدوى ، حتى نشعر بأنها الوقعة الأخيرة التي لا مفر منها، فحتى أضلعنا أوثقها الخوف بإحكام و منعها من الحركة. ... Show More
6m 39s