لقد أعادت الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين في غزة النقاش حول طبيعة الصراع في العالم منذ نهاية الحرب الباردة. وذهبت العديد من التحاليل باتجاه استعادة مقولة الباحث الأمريكي صامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات الذي سوف يحكم العالم مستقبلا بعد نهاية الإيديولوجيات الكبرى. حيث وجدت هذه المقولة في تصريحات بعض الفاعلين في الأحداث الأخيرة في غزة مادة تشرع بها للقول بأن الصراع الحالي هو صراع حضاري ديني بين الشرق والغرب.
لقد تحدث الفيلسوف الفرنسي ذي الحضور الإعلامي الكبير، ميشال أنفراي، مؤخرا عن قناعته بأن الحرب في غزة تؤكد، كما ورد في كتاباته سابقا، رأي هنتنغتون حول الصراع بين عالم الشرق الإسلامي وعالم الغرب ذي العقلانية ذات الجذور اليهودية-المسيحية. فتصريحات وزير الخارجية الأمريكية الذي اعتبر زيارته إلى إسرائيل في بداية الأحداث مرتبطة بيهوديته كشخص أكثر من بعدها الرسمي مثال على ذلك. وفي نفس الاتجاه يمكن اعتبار تصريحات بعض المسؤولين في الدول الغربية إضافة إلى الخطاب الرسمي للدولة العبرية وكذلك خطاب المقاومة الفلسطينية ذي المسحة الإسلامية.
غير أن مقولة صدام الحضارات تجد لها صدى أيضا لدى الشرق وخاصة لدى العرب. حيث يرى فيها العرب والمسلمون اعترافا بالإسلام كقوة وكمحرك للتاريخ وكفاعل في العلاقات الدولية. ونجد هذا الصدى خاصة لدى الحركات الإسلامية في العالم العربي بالإضافة إلى التيارات القومية العربية. فصدام الحضارات يعطي نوعا من الإحساس برد الاعتبار للثقافة العربية الإسلامية المهزومة.
لكن بعيدا عن هذه التجليات الألسنية، وعن طبيعة الخطاب المصاحب للصراع، والذي تطغى عليه الصبغة الدينية كما كان الأمر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من سنة 2011، تكفي نظرة من زاوية أخرى للأحداث كي نرى أن الأمر يتعلق أكثر بصراع الحق والقوة في حالة غزة وليس بصراع حضارات. أولا، لا بد من الإشارة إلى أن طابع التعميم الذي تطرحه نظرية صدام الحضارات فيه الكثير من التبسيط. فلا يوجد إجماع في الغرب على ما يسمى الأصول اليهودية-المسيحية، أو حتى على احتكار تمثيل الغرب للحداثة. فقوى اليسار والديمقراطيون ونشطاء حقوق الإنسان في الغرب ميالون إلى مبدأ التضامن الإنساني بغض النظر عن الثقافات ومن هنا مساندتها للحق الفلسطيني. ثانيا من الواضح أن ما يحصل في غزة مرتبط بحالة استعمار، أي بمنطق القوة أكثر من ارتباطه بمسألة دينية ما. وما إثارة صدام الحضارات إلا وسيلة للتغطية على هيمنة منطق القوة على حساب منطق الحق وضمن هذه المعادلة نفهم الموقف الأمريكي المساند بشكل مطلق لإسرائيل.