أعترف بأني لم أعد شابة يافعة، وبأني لا أنتمي الى فئة ممّن يقولون عنهم "في مقتبل العمر". لقد اختبرتُ الكثير، ورأيتُ الكثير، وتعلّمتُ الكثير، حتى باتت نادرة جداً، بل جداً جداً، الأمور التي تصدمني أو تدهشني أو تفاجئني في هذه الحياة. لكني، أعترف، ما زلتُ حتى هذه اللحظة، لا أصدّق ولا أستوعب قدرة الإنسان على الوحشية والإجرام.
أعترف
جمانة حداد
أعترف بأني لم أعد شابة يافعة، وبأني لا أنتمي الى فئة ممّن يقولون عنهم "في مقتبل العمر". لقد اختبرتُ الكثير، ورأيتُ الكثير، وتعلّمتُ الكثير، حتى باتت نادرة جداً، بل جداً جداً، الأمور التي تصدمني أو تدهشني أو تفاجئني في هذه الحياة. لكني، أعترف، ما زلتُ حتى هذه اللحظة، لا أصدّق ولا أستوعب قدرة الإنسان على الوحشية والإجرام.
كيف يمكن أن يكون الإنسان "إنساناً"، ويكون في الآن نفسه مجرّداً الى هذه الدرجة من مشاعر إنسانية بحتة، كالتعاطف، والرأفة، والرحمة؟
كيف يمكن أن يكون الإنسان "إنساناً"، ويكون في الآن نفسه قادراً على ارتكاب مجازر مروّعة في حق أطفال لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في أرض هي حقّهم لكنها نُهبَت منهم؟
كيف يمكن أن يكون الإنسان "إنساناً"، ويكون في الآن نفسه باطشاً همجياً ظالماً في حق بشر آخرين عُزَّل، مشرّدين، مرضى، جرحى، عطشى، جوعى، ممدّدين على أسرّة المستشفيات أو مفترشين بلاطها، بلا أن يشعر هذا المسمّى "إنساناً" بأي وخز ضمير ولا بأي عار أو ندم؟
كيف يمكن أن يكون الإنسان "إنساناً"، ويكون في الآن نفسه قابلاً للاحتفال بدموّيته الفظيعة باعتبارها قوّة، وقابلاً للتهليل فوق جثث الأبرياء مصنّفاً جرائمه هذه بأنها "إنجازات"، وقابلاً للتعامي عن واقع أنه مجرّد محتل ومستبد؟
بئس الإنسانية إذا كانت على هذه الشاكلة. بئس الإنسانية إذا كان الحيوان أرأف منها وألطف وأحنّ وأرقى. إذا كان مثل هؤلاء بشراً، فأنا أتنازل منذ هذه اللحظة عن صفتي البشرية، لأني أرفض أن أُشمَل معهم. أفضّل أن أكون شجرة، أو قطّة، أو حتى حصاة، لا بل أشرف لي أن أكون حشرة من أن أكون كهؤلاء.