المسألة تشغل بال كثيرين: هل يهدّد الذكاء الاصطناعي عالم الأدب؟ وإذا كانت الخوارزمية قادرة على توليد نص ممتاز، متكامل، فما الذي يبقى للكاتب إذاً؟ ما الذي يبقى لنا؟
الجواب في غاية الوضوح: ما يبقى لنا هو ما لا يمكن نسخه أو اختزاله في "كود": تبقى هشاشتنا، توحّشنا، خبرتنا التي تنضج ببطء، ذكرياتنا التي لا تشبه إلا أصحابها، ألمنا الذي لا يتكرر بالطريقة نفسها مرتين، شكوكنا التي تنخر كل يقين. ما يبقى هو جسدنا بما فيه من شبق وجروح واحلام وانكسارات. حنينا الذي لا يمكن تقليده، لأن الحنين ليس معلومة، بل نزيف. ما يبقى، في اختصار، هو إنسانيتنا.
أقول إنسانيتنا، وأعني ذلك العطب الداخلي الذي لا يستطيع أحد أو شيء أن يحاكيه أو يصلحه. تلك الفجوة بين ما نعيشه وما نفهمه. تلك الرغبة المستميتة في تسمية الأشياء كي لا تبتلعنا. الذكاء الاصطناعي يكتب، نعم، لكنه لا يدمي. ينتج جُملاً، لكنه لا يرتجف جرّاءها. يصوغ استعارات، لكنه لا يتعرّى من خلالها. هو متمكن من اللغة، لكنه لا يسكنها ولا هي تسكنه.
التحدّي الحقيقي ليس في ما يفعله الذكاء الاصطناعي أفضل منّا، بل في ما يكشفه عنّا. لقد فضحنا من دون أن يتكلّم: كم من النصوص كانت تُنشر بلا روح؟ كم من "الكُتّاب" كانوا مجرّد صانعي جُمل؟ كم من القصائد والروايات كانت في جوهرها لغة فارغة تكرر نفسها؟ الذكاء الاصطناعي لم يقتل الكاتب، بل قتل الوهم. قتل فكرة أن الكتابة مهارة. الكتابة ليست مهارة. الكتابة مرض، ونجاة، وتمرّد، ومقامرة مع الهاوية.
وبعد: الكتابة ليست إنتاج نص، بل بناء وعي. ليست تجميع كلمات، بل تفكيك واقع. ليست بديلاً عن الصمت، بل طريقة لزرع ضجيج مختلف وسط هذا الصمت. الكاتب الحقيقي اليوم ليس من يكتب أكثر أو أفضل، بل من يجرؤ على أن يكتب ما لا تستطيع الآلة أن تكتبه: تلك الشقوق الداخلية، تلك الحميمية المؤلمة، تلك الأسئلة التي لا تبحث عن جواب.
في زمن الذكاء الاصطناعي، ليست الكتابة ولا الأدب ما يموت. ما يموت هو الكاتب الذي كان يظن أن الكلمات وحدها تكفي. الآن، علينا أن نعود إلى ما جعلنا نكتب المرة الأولى. الآن، علينا أن نكتب لا لنُدهش، بل لنثبت لأنفسنا أننا ما زلنا أحياء.