بقدر ما أعشق التفاعل مع الناس، بقدر ما أعشق وحدتي. قد يبدو هذا التناقض غير قابل للتصديق، لكنه حقيقتي. حقيقتي التي تربكني أنا بقدر ما تربك الآخرين. حقيقتي التي تجعلني أتساءل: ترى هل أنا منفتحة على العالم، أم منغلقة على ذاتي؟
البشر يُصنَّفون عادةً نوعين: الاجتماعيون الذين يتغذّون من وجود الآخرين كما يتغذّى النبات من الشمس، والانطوائيون الذين يعتاشون من ظلالهم مثلما تعتاش الجذور من العتمة. أما أنا، فأراني أنتمي إلى المجموعتين، وأراني لا أنتمي الى أي منهما في آن واحد. في داخلي غرفة مشرّعة النوافذ على كل الجهات، وفي داخلي أيضاً قبو مقفل لا يملك مفتاحَه أحد سواي.
في بعض الأوقات، أكون ذئبة تركض وحيدة على سطح القمر، تعشق عزلتها وصمتها، وترفض أن يقترب منها أحد. لكني في أوقات أخرى أتوق الى النزول الى الأرض، الى يد تلمس يدي، الى أذن صاغية تخفف عني ثِقل وجودي، الى ضجيج ينسيني الأصوات التي في رأسي.
الوحدة بالنسبة إلي ليست عقاباً، بل ضرورة. هي المرآة الوحيدة التي لا تكذب عليّ. فيها أرى وجهي الصادق، بلا أقنعة، بلا تجميل، بلا نكران يغيّر الواقع ويسوغه على هوى رغباتي وتوقعاتي. في المقابل، التفاعل مع الناس ليس عبئاً بل ولادة ثانية. هم يوقظون فيّ أجزاء لم أكن أعلم أنها موجودة. يذكّرونني أني لست جزيرة، بل جسراً هشّاً بين عزلة الداخل وضجيج الخارج.
أحياناً أضحك من نفسي: كيف يمكن لإنسانة أن تعيش هذا الانقسام بلا أن تنهار؟ لكني أدرك أن هذا "الانقسام"، إذا صح التعبير، هو هويتي. أنا ابنة المسافات المطاطة. ربما لهذا أكتب، لأني أحتاج الى مساحة تحتملني بكل تناقضاتي، والكلمة هي الفضاء الذي أكون فيه اجتماعية ومنعزلة في آن.
أكتبُ وحيدة، وأُقرأُ جماعات.
إذاً، هل أنا منفتحة أم منغلقة؟ الاثنان معاً. هل هذا فصام أم انسجام؟ الاثنان معاً. أو لعلي، بكل بساطة، امرأة تعلمت أن الحرية ليست في الهرب من الآخر ولا في الارتماء عليه، بل في القدرة على أن تقول: "أحتاجك" حين تريد، و"دعني وحدي" حين يلزم.
وها أنا، ما بين هاتين الجملتين، أعيش حياتي: نصفها على سطح القمر، ونصفها الثاني بين البشر.