عندما أتمشّى في منطقتنا في استوكهولم أجد بيتًا صغيرًا لونه أصفر، يخرج منه أطفال ويلعبون أمامه. في كلّ مرّة أشاهد هذا البيت أتذكّر بيتنا في صنعاء الذي للأسف بعناه وكانت لي فيه ذكريات جميلة، وأنا اتأمّل البيت الأصفر عدت بذاكرتي للوراء، وكأنني أشاهد فيلمًا سينمائيًّا.
كنا نسكن في صنعاء في منطقة تسمّى المدينة السكنية، فيها بيوت بناها الصينيون من طابق واحد بجانب بعضها. (فلل) جميلة لونها أبيض، وحولها حديقة وسور يفصل كلّ بيت عن الآخر. تتكوّن من ثلاث غرف ومجلس ومطبخ وحمامين في منطقة هادئة يهتمّ أصحابها بحدائقهم التي يزورها مزارع بين حينٍ وآخر ليصفف الأشجار فيها. كانت منطقة تسكن فيها الطبقة المتوسطة المتعلمة.
كان في هذه المنطقة مدرسة ومركز شرطة صغير، وعندما أمشي للمدرسة أمرّ على مركز الشرطة، وألمح أخا زميلتنا -لبيبة- الشاب الوسيم الذي كانت الكثير من الفتيات معجبات به.
لبيبة أيضا كانت جميلة، وكانت مثار حديث كلّ المدرسة. كانت جميلة جدًّا وطويلة مقارنة بطول الفتيات في عمرها. كلّ أخوتها كان جمالهم متفرّدًا، ويختلف عن الجمال اليمنيّ، والسبب أنّ والدتها كانت أجنبية، وكانت عائلتها تُعتبر منفتحة جدًّا مقارنة بالعائلات اليمنية. هذا الانفتاح كان يُفسَّر على أنّه انحراف، واليوم عندما أتذكّر أنتبه أنّني أيضا -بفكري الضيّق في ذاك الوقت- كنت أعتبرهم عائلة ليست مؤدّبة بما فيه الكفاية.
كانت عائلتهم كأنها تعيش في عالم آخر، فهي تستقبل أصدقاء لبيبة وصديقات الأبناء والاختلاط أمر عاديّ بالنسبة لهم. نعم أصدقاء، وكنا نستغرب أنّ لديها أصدقاء من الرجال. وأعتقد أنّ الرجال اليمنيّين كانت أيضا لديهم فكرة سيئة عنها وعن عائلتها حتى لو ادّعوا أنّهم يتقبّلون انفتاح عائلتها.
وكان هناك شيء غريب في لبيبة. كانت تحبّ هتلر وترسم الصليب المعقوف بشكل مستمر، ولا أفهم ليومنا هذا الأسباب وراء ذلك. ولكن بسببها ولكثرة المعجبين بها تم رسم الصليب المعقوف في كل شوارع منطقتنا ليعبّروا عن حبهم لها، ولكنهم غير واعين لمعنى الصليب المعقوف، ومن يمشي في منطقتنا في ذاك الزمان لن يعرف أن وراء هذه الرسوم قصص حبّ والأمر ليست له علاقة بهتلر.
تزوّجت لبيبة والجميع استغرب كيف تزوّجت رغم سوء سمعتها، وكانت أقاويل كثيرة تقال عن هذا الرجل الذي قبل الزواج من فتاة عرفت رجالًا قبله حتى ولو كانت معرفة بريئة، ولكنها كانت تعتبر غير بريئة في مجتمعنا. رزقت لبيبة بطفلة وكان الجميع يتحدّث عن سعادتها في حياتها ولكن للأسف انتهت قصتها بوفاتها في حادث سير، وتوقّفت ألسنة الناس أخيرًا. ولم يعد أحد يذكر لبيبة.
نظرت للبيت الأصفر أمامي وابتسمت، وتذكّرت أشياء كثيرة بالتأكيد أصبحت منسيّة، ولكن ربّما يأتي اليوم الذي أحكي فيه عنها في كتابي.