هنا زمنٌ تتهاوى فيه المدن كما تتهاوى أوراق الخريف أمام ريح مجنونة، وتُختزل الحياة في أصوات الطائرات وصفير القذائف، هنا وُلد حبّ يشبه زهر اللوز؛ رقيق، أبيض، لكنه عنيد، لا يعترف بالمستحيل. هنا في غزة، حيث تمشي الحياة جنبًا إلى جنب مع الموت، كان كنعان، وكانت يافا.
قبل 555 يوماً لم يكونا ليلتقيا فهو كان يعد لسفره خلال أيام بعد بداية أكتوبر لمتابعة دراسته العليا في إحدى الدول الاسكندنافية وهي كانت تستعد لسنتها الثالثة في الجامعة!
لم يكن لقاؤهما الأول في حفل عائلي ولا في مقهى ساحلي، بل في طابور طويل للحصول على ربطة خبز. نظرات سريعة تبادلها قلبان أنهكهما النزوح وفقدان الأحبة، كان اللقاء الأول كما تُولد القصائد؛ مفاجئًا، فيّاضاً، لكنه عميق. في عينيها قرأ كنعان: “لماذا التقينا اليوم؟” فردّت نظراته بصمت: “الحب يصبح أعظم عندما تحكمه المأساة.”
مرّت الأيام كأنها شظايا زجاج، لا يمكن جمعها دون أن يُسال الدم. بيت يافا قُصف، فوجدت نفسها في خيمة صغيرة على أطراف مواصي خان يونس. هناك، وسط الخراب، جاءها كنعان ببزة المسعفين يحمل خبزاً دافئاً ودفتراً صغيراً.
قال لها: “اكتبي، دَوِّني حبّنا، لا تتركيهم يسرقون صوتك.” فكتبت.
كتبت عن اللقاء الأول، عن الخوف عليه مع كل غارة، عن يديه اللتين ترتجفان حين يناولها الخبز، عن صوته وهو يقرأ لها الشعر بين القصف والقصف.
كتبت تخاطبه: “أتعرف يا كنعان؟ الان أفهم فيرمينا داثا عندما قالت: ‘إن القلب له أسباب لا يعرفها العقل.’ وأنا، قلبي اختارك رغم الحرب، رغم الدمار، رغم كل شيء.”
كان كنعان يبدأ صباحه لها برسالة نصية، مكرره: “الحب لا يتعب، ولا يملّ، ولا يتراجع… الحب صبر خمسين عامًا على العبث، وأنا أحبك بهذا الشكل.”
بعد ليلة قصف مجنونة، لم تصل رسالة الصباح، الأخبار تتحدث عن أن إسرائيل أعدمت طواقم الدفاع المدني في غزة.. فاضت الدموع، شاه بصرها وأصبح صوت قلبها يطغى على صوت القصف، جلست في خيمتها، فتحت دفترها، وكتبت: “حتى لو غاب، فالحب في غزة لا يموت، بل يتحول إلى ملحمة، لا تحتاج لورق كي تُروى”.
الحب في زمن الإبادة ليس رواية خيالية، بل آلاف من الأرواح التي عاشت حلم سعادة لم يكتمل.