أمس، بينما كنت في أحد المقاهي، سمعتُ الصبية الجالسة الى الطاولة في جواري تعاتب والدتها الجالسة قبالتها، قائلة بحسرة: "لماذا خلقتني؟ أنا لم أطلب أن أولد! أنتِ جنيتِ عليّ!". طبعاً، كانت الفتاة تمرّ بمحنة عاطفية صعبة، ما دفعها الى التفكير في ذلك وقوله، لكنّ كلامها ذكّرني بمواقف كثيرة في حياتي تملّكتني خلالها التساؤلات نفسها. وأعرف أني لستُ الوحيدة.
ترى لو كان للبشر أن يختاروا أن يولدوا مرة ثانية، ماذا كان ليكون خيارهم؟ كم منهم سيسارع الى قول نعم، وكم منهم سيقول لا؟ من وجهة نظري، قلة قليلة ستبادر الى اختيار عيش الحياة من جديد. الحياة مهنة متعبة في أحسن الأحوال. هذا واقع وليس شكوى. حتى ذوو الامتيازات يعرفون هذه الحقيقة، ويعترفون بها. فبين هموم الصحة، والمشكلات المالية، والأوجاع العاطفية، ومتاعب العمل، والضغوط الاجتماعية، والخوف من المجهول، من يتحلى بشجاعة إعادة الكرة والولادة من جديد، لو كان القرار بيده؟
كنتُ أشتهي في ما مضى أن أعيش ما لا يحصى من الحيوات المتتالية، لكي أتمكن من فعل كل ما أحلم بفعله وإنجاز كل ما يعن على بالي إنجازه. ولكن أجدني الآن ألهث محاولة اللحاق بهذه الحياة الواحدة التي أعيشها، وبكل ما ترميه في وجهي، بل في وجوهنا جميعاً، من مآس وشكوك ومخاوف وعراقيل وهموم وأحزان. هذا وأنا مدركة تماماً أني محظوظة للغاية مقارنة بسواي. فماذا تقول مثلا الأمهات اللواتي يفقدن أطفالهنّ يومياً في فلسطين، أو الأولاد الذي يعثرون على أهلهم أشلاء، أو اؤلئك الذين لا يجدون سقفاً يأويهم، أو لقمة تسد جوعهم؟ اي حياة يعودون إليها بعد كل هذا الهول؟ رعب لا يفوقه رعب، وظلم لا يفوقه ظلم.
الحياة فخّ: جميعنا نتغنّى بها، ولكن ابحثوا عميقا تجدوا ان لا احد يريدها حقا، واننا عالقون فيها فحسب.
العيش مهنة متعبة أجل، وهذا في أحسن الأحول. لأجل ذلك لن أولد من جديد. حياة واحدة تكفي، و"بزيادة".