المباديء الثابتة والمواقف المتغيرة
غادة عبد العال
لا يتغير المرء منا بين يوم وليلة، ما بيصحاش فجأة من النوم فيجد ما اعتنقه من الأفكار في الليلة السابقة وقد تبخر فجأة في الهواء، بل يحدث ذلك رويدا رويدا، كما تحرك تيارات المياة في الأنهار - التي نحسبها ساكنة - الجبال عبر العقود.
تنتبه لنفسك يوما بعد يوم فتجد إنك ما بقتش بتنفعل بالأشياء بنفس الطريقة السابقة، الأحداث اللي كانت آراءك فيها حاسمة وقاطعة، أصبحت الآن تتمهل قليلا في الحكم عليها، وتراها في ضوء جديد لم تكن حماستك تمهلك لرؤيته من قبل.
ولا يقتصر الأمر على الأحداث الجسام. بل حتى في الأمور الاجتماعية بتجد إنك بتتغير سنة ورا سنة لحد ما ممكن تلاقي نفسك واقف في مكان عمرك ما تخيلت إنك هتقف فيه.
على مدار سنين وجودي في المجال العام مثلا ولأن كتابتي تميل ناحية النسوية، كان دايما صندوق بريدي
الإلكتروني ممتليء بالشكاوى والدموع والآهات، والأسئلة المباشرة من عينة (لو انتي مكاني تعملي إيه؟)
في الماضي كان الأمر ما بياخدش مني تفكير كتير. لو فيه امرأة اتحطت في علاقتها بالطرف الآخر في خانة المظلوم أو المعنف أو المهان، كنت بانصحها فورا بالانفصال. لكن دلوقتي بعد ما كبرت وفطنت لوجود عدد لا نهائي من درجات الرمادي بين اللونين الأبيض والأسود. أصبحت نصايحي أكثر ترويا وهدوءا، بقيت بسأل أسئلة زي: هل أنتِ عندك استقلال مالي؟ هل عندك خبرة في العمل؟ هل لو انفصلتي أشخاص محطوتين بين دفتي الرحى (زي الأطفال في زواج متعثر مثلا)، هل هيعانوا من قرارك ده معاناة ممكن تعصف بحياتهم والا الأمور ممكن تتحط تحت السيطرة؟
كل دي أسئلة اتعلمت أسئلها، لأن القرارات الفردية غالبا ما بتفضلش نتايجها فردية وإنما بتشمل ضحايا ما كانوش محطوطين وقت القرار في الحسبان.
كذلك الأحداث الدولية والأيام الصعاب، زي الأيام اللي عايشين فيها دلوقتي، لما حدثت أحداث السابع من أكتوبر، توقفت قليلا وأنا بتابع التهليل والاحتفالات. أنا وكام شخص أعرفهم من اللي شاهدوا على مر أعمارهم أحداث شبيهة وعاصروا تبعاتها كانت على قلوبنا أحجار ثقيلة، لأننا كنا عارفين إن التمن مش هيكون هين، وإن اللي حصل هيفتح هاويس أمام نهر من الدماء. وقد كان.
دخلت عدد من المجادلات مع أصدقاء أعزاء كانوا بيقولوا إن أهل غزة كده كده بيعانوا، وكانوا بيشيحوا في وشي بإيديهم لما كنت أجيب إن معاناة عن معاناة بتفرق، بالتأكيد المعاناة اليومية تحت الاحتلال تستحق الإدانة، لكنها ماكانتش بتوصل لدرجة ألف شهيد يوميا من الأطفال.
يمكن دي طبيعة المرحلة العمرية، أو تجاوز منتصف العمر، اللي بتدفع الواحد إنه يترقب نتيجة المعادلة وإيديه لسه بتكتبها، وبتخلي بعض المنتمين إلى جيلي تعدوهم رغبة سرية في وجود طريقة سلمية ما لإنهاء الصراع. وهو اللي بيفرق عن حماس الشباب، والإيمان بالفوضى الخلاقة، أو بالعودة إلى اعتماد المقاومة كحل وحيد وأخير.
في النهاية يمكن أن نختلف على المواقف، لكن المباديء لا يمكن التفاوض عليها، نرفض العدوان على المدنيين، نرفض أن تقصف ترسانة عسكرية مباني تكتظ بالنساء والأطفال. نرفض أن يتخذ أي هجوم ذريعة لارتكاب جرائم تطهير عرقي. نرفض تزوير الإعلام للحقائق. ونتمنى أن يأتي يوم قريب، لا ننام فيه وآخر ما شاهدناه على التلفاز هي أشلاء أطفال أبرياء.