لم يعد هناك شكوك حول اقتراب البشر من تحقيق حلمهم في الخلود قريباً. لا أتكلم هنا عن الاختراقات العلمية التي سوف تتيح للإنسان أن يوقف الزمن واهتراء الجسد والصحة، بل عن الاختراقات التكنولوجية التي سوف تتيح شكلاً آخر من أشكال الخلود، هو البقاء كعقلٍ أو كوعي.
هكذا سوف نتمكن قريباً من تحميل وعينا على ذاكرة الكترونية، ما سيتيح لنا البقاء على قيد الحياة كوجودٍ فكري، بكل ما يحتويه هذا الوجود من ذكريات وتجارب وخصائص، بعد فناء أجسادنا بقرون. وهكذا سيتاح لأجيال المستقبل أن تتواصل مع أسلافها الذي "ماتوا" جسدياً منذ وقت بعيد، من خلال الحفاظ على هؤلاء الأسلاف كوعي على جهاز كومبيوتر.
لا أنكر أن هذا الاحتمال يسحرني مثلما يسحر كثيرين، فالإنسان، أولا، هو وعيه وعقله. ولعلنا، عندما ننجح في تحقيق استدامة هذا العقل، سنتمكن من التخلّص من آفات "بشرية" كثيرة، قد يكون أهمها وأسوأها تحكّم الشعوذات الدينية بعقول الناس، وهو تحكم يتم بواسطة نقطة قوة مطلقة هي خوف البشر من الموت. عندما ينجح التطوّر – وسينجح - في تقديم بديل من خرافات الآخرة والدينونة والجنة والشيطان والنار والحوريات، سوف يتمكن في الآن نفسه من تجريد هؤلاء المشعوذين من سلاحهم الأقوى والأمضى.
لكنني، في الآن نفسه، أشعر بغصّة "رومنطيقية" حيال هذا المستقبل. إذ ماذا يعني أن أصير كياناً عقلانياً مجرّداً فحسب، بلا جسد من لحم ودم يتيح لي أن أختبر الحياة بحلاوتها ومرارتها؟ بلا حواس تتيح لي أن ألمس الدنيا وأشمّها وأتذوقّها؟ بلا ذراعين تعانقان وعينين ترنوان وبشرة ترتعش ولسان يتلمّظ وجسم يشتهي ويمارس الحب؟ أي وجود هو هذا، بلا كل هذه اللذات المسمّاة "دنيوية"؟
العقل نعمة، نعم ومن دون شك. والوعي ثروة، حكماً وبالتأكيد. لكنّ الجسد، جسدنا هذا، بكل ما يحتويه من نقائص ومعجزات على السواء، هو كنز لا يثمن. فلنتمتّع به قبل