غالباً ما أُسأل: "لماذا احتجت الى تعلم أكثر من لغة؟ ما الذي تضيفه لك اللغات الأخرى ولا تمنحك إياه العربية؟"
في الواقع، أنا لم "أحتج" الى تعلّم أكثر من لغة، بمعنى أني لم أفعل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم، مدفوعةً بخطّة ما أو مسوقة نحو هدف ما. فأنا لا أعرف أن أقوم بأي شيء، ولا أنجح في القيام بأي شيء، إذا لم يكن نابعاً من رغبة جامحة فيّ، بركانية جداً، جوانية جداً، غير خاضعة لسيطرة العقل والمنطق، وما يجوز ولا يجوز، وما يفيد ولا يفيد. لا أجيد فنون الحساب، ولا أخضع سوى لفطرتي وتلقائيتي، وقد أوقعني هذا الاستسلام التام – والطوعي والسعيد - لعفويتي، في الواقع، في الكثير من المشاكل، وكبّدني الكثير من الخسائر، على مرّ السنين. لكني أعتبر هذه المشاكل والخسائر ثمناً زهيداً لقاء متعة أن أكون من أنا بلا مسايرات ومساومات.
في ما يتعلق باللغات، حصل الأمر في شكل تلقائي بداية، من حيث ظروف نشأتي وتعليمي ولقاءاتي، ثم صار تدريجاً شغفاً، كي لا أقول هوساً. عشقتُ، أنا القارئة النهمة، قدرتي على قراءة الكتّاب العالميين الذين أحبّهم بلغاتهم الأصلية؛ عشقتُ، أنا المترجمة الشغوفة، تمكنّي من إيصال شاعرات وشعراء لم يكونوا في المتناول الى اللغة العربية؛ عشقتُ، أنا المتيّمة بالسفر والاكتشاف، سهولة التواصل مع بشر من أنحاء مختلفة من العالم، واختبار تجارب إنسانية وأدبية وثقافية ما كانت لتكون متاحة لي لو لم أكن أجيد هذه اللغة أو تلك؛ لكني عشقتُ، أخيراً وأولاً وخصوصاً، هبة "التكاثر" التي منحتني إياها اللغات، أي كم صرتُ متعددة بفضلها، ككاتبة وامرأة وإنسانة على السواء. أحبّ اللغة العربية بجنون، لكني بالجنون نفسه أحب اللغات الأخرى التي أتكلّمها، وأحبّ نفسي فيها وبها. لكل لغة عطاءاتها؛ لكل لغة جوّها ونبرتها وشخصيتها وقوتها وجمالها.
كتب الشاعر أنسي الحاج يوماً: "أنا شعوب من العشّاق". أما أنا، فبفضل اللغات، أنا شعوب من النساء.