لو أتاحت لك الأيام الصعبة والجري وراء لقمة العيش ومنغصات الحياة وقتا للتأمل في محيطك الاجتماعي هتحس إن فيه تغييرات في التركيبات الاجتماعية وفئات جديدة ما حدش فكر يلاقيلها مسميات جديدة تمشي مع تطورات العصر الحالي.
كان فيه مثلا زمان فئتين من الرجال والنساء اللي بيفضلوا لجزء كبير من حياتهم أو ربما حياتهم كلها دون زواج أو ارتباط. والمجتمع غالبا كان بيحطهم في خانة كبيرة إسمها (فاتهم القطر)، وكانت فيه شوية صفات مشتركة بين الفئتين زي إن حياتهم بيلفها شيء من الحزن. ما بيخرجوش من بيوت العائلة مثلا. ما بيلاقوش داعي لتجديدها أو لتغييرها، عايشين في وسط ذكريات العائلة وكإنهم حراس عليها. ما فيش دافع كبير ليهم عشان يطوروا شغلهم أو يدوروا على طموحات عملية، لأن جواهم صوت بيقول وهنعمل ده ليه وعشان مين؟. بيعيشوا اليوم بيومه، وقليل قوي منهم اللي بيعمل حاجة لمزاجه أو لبهجته أو لمستقبله تحت شعار (مستقبل إيه؟ ما خلاص بأه).
واللي بيشجع أكتر على أسلوب الحياة ده هو إن المجتمع كان بيعامل الشريحة دي على إنهم شواذ القاعدة، وبيتحرج من وجودهم في مناسبات كتير سواء لاعتبارات متخلفة زي إنهم بما إنهم محرومين فهيكونوا مصدر للحقد والحسد واستكتار النعمة على أصحابها. أو لأن الناس بتتعامل معاهم بحساسية زايدة بتخلي وجودهم غير مريح في المجتمعات العامة وبينتهي الأمر بإن وجودهم و محاولة اندماجهم بالي حواليهم بيسبب الضيق ليهم وللآخرين
أما الآن ففئة اللي (فاتهم القطر) دي تم استبدالها بنجاح بفئة (المستغنيين). شريحة كبيرة من الرجال والنساء اللي مش في دماغهم الارتباط، بيخافوا منه بأه، مش شايفين جدواه، أو ببساطة مستغنيين عنه من كتر ما شافوا ولمسوا مشاكله مع المحيطين بيهم.
بس الشكل والمضمون اتغيروا، شيلنا الحزن والكآبة والتمترس ورا ذكريات الماضي وإحساس اللاجدوى وعدم وجود دافع للتقدم والترقي، وحاليا بقى عندنا رجالة زي الفل، شغل وفورمة وثقافة وتربية، وبنات جمال وشياكة واستقلالية وتحقق ونجاح. مقضيين حياتهم شغل وسفر وفسح وكورسات وشهادات وشايفين موضوع الارتباط والزواج مش أكتر من عبء مستغنيين عن حمله وثقله واحتمالية تعطيله لسير حياتهم.
و مع ذلك يظل الكثيرين لسه حاطينهم في خانة الشك وعدم الفهم وعدم الترحيب. رغم اختلاف الزمن والدوافع والأسباب. و ده بيخلي أي حد منتمي للفئة دي يبعد أكتر وأكتر ويستمريء الوحدة ويبعد عن وجع الدماغ المرتبط بالاقتراب من الناس.
كلامي لا يعني إن نموذج (المستغنيين) صحي وواجب تشجيعه، في اعتقادي الشخصي جدا فالبني آدم محتاج صحبة، والوحدة الناتجة عن افتقاد علاقة إنسانية شخصية مع شخص بيننا وبينه مساحات مشتركة ماحدش يقدر ينكر وجودها، و لأحاسيس الإنسانية اللي زي الرومانسية والشاعرية والحب والود، في تقديري معجونة في طينة الإنسان وبيحنلها ويفتقدها وحياته ونفسيته بتتغير كتير بناءا على وجودها أو اختفاءها.
لكن كمان مين قال إن كل الناس لازم تمشي بنفس الكتالوج؟، الظروف اللي احنا عايشين فيها حاليا: اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا، تستدعي مننا إننا نبص للناس اللي عايشين حوالينا بنظرة جديدة ومختلفة عن نظرة أهالينا، ونبقى أكثر تفهما وتقبلا للناس اللي عندها اختيارات مختلفة في الحياة، لعلها تكون فرصة سانحة لإننا نفهم بعض ومين عارف يمكن ده يساعدنا في النهاية لإننا نلاقي بعض ونسند بعض بشكل كلنا محتاجينه في الأيام الصعبة اللي بنعيشها.