لي صديقة عزيزة، غالية على قلبي، يخاف منها الآخرون. يهربون منها كما لو كانت وحشًا يترصّدهم في العتمة. يفعلون كل ما في وسعهم كي يجتنبوا اللقاء بها. أحاول أن أشرح لهم أن فكرتهم عنها خاطئة؛ أنها ليست خطيرة ولا مؤذية؛ أن الاجتماع بها ممتع ومفيد.. ولكن، عبثاً. هم لا يريدونها.
صديقتي هذه، اسمها الوحدة. وأنا، على العكس من الكثيرين، أقدّرها، وأحبّها، وأتوق إليها، وأتحيّن الفرص لكي أكون معها وفيها. لا أهرب منها، بل أفتح لها باب روحي على مصراعيه، أهيّئ لها مقعدًا في داخلي، أجلس قبالتها، ونتحاور.
الوحدة ليست سجنًا أو قصاصاً كما يصوّرونها، بل مختبرٌ للنفس. بفضلها نلتقي بذواتنا الحقيقية، تلك التي تختبئ وراء ضوضاء أدوارنا اليومية. في الوحدة، تسقط الأقنعة واحدًا تلو آخر، فنكتشف وجوهنا كما هي، بلا تزيين ولا إنكار ولا تبرير. مواجهة الذات ليست سهلة بالطبع: إنّها كأن تحدّق طويلاً في مرآةٍ تُريك هشاشتك وأخطاءك ورغباتك الممنوعة والطفل الذي كنته وما زال يبكي في داخلك أحيانًا بلا سبب. لا، هذه المواجهة التي تتيحها الوحدة ليست سهلة، أقول، لكنها ضرورية، بل حيوية.
شخصياً، أحبّ أن أصغي إلى الأصوات في رأسي. الأصوات التي لا يسمعها أحد سواي: أفكاري المتنازعة، شخصياتي السرية، ذكرياتي وهي تعيد ترتيب نفسها، أسئلتي الصغيرة التي لم أجد لها جوابًا بعد. هذه الجلبة الداخلية لا يمكن أن تُفهم إلا في صمت الوحدة. هي الفوضى التي تسبق النظام، والتشوش الذي يحتاج إلى الوقت لكي يتخمّر في العقل ويتحوّل إلى وعي صافٍ.
الوحدة، حين نفهمها، تصبح نعمة. ليست انعزالًا عن بل عودة إلى. ليست نقيض الحياة، بل تمرينٌ عليها. فيها نتعلم كيف نصغي، لا إلى الآخرين فقط، بل إلى أنفسنا أيضًا. فيها نكتشف ما نريده فعلًا، من نحن، وإلى أين نمضي. في الوحدة، نعيد لملمة ما تبعثر فينا، ونمنح تجاربنا الوقت اللازم لتغدو حكمة بدل أن تبقى جرحًا مفتوحًا.
ثم من قال إن الوحدة ليست مأهولة؟ هي مأهولة بالكتب التي نريد قراءتها، بالأفلام التي ننتظر اكتشافها، بالأمور الصغيرة والكبيرة التي نحتاج الى القيام بها وتمنعنا عنها عجقة الآخرين، ومأهولة أيضاً وخصوصاً بالكسل، أي بلذة الـ farniente، على ما يردّد أصدقاؤنا الطليان.
لا أخاف من الوحدة بل من عالمٍ لا يعرف فنّ الوحدة ولذّة الوحدة وأهمية الوحدة. أخاف من بشرٍ يظنّون أن الصخب الفارغ دليل حياة، وأن الصمت موت. هؤلاء لا يعلمون كيفية العيش مع أنفسهم، فكيف يعيشون مع الآخر؟
لا، لا يخيفني أن أكون وحدي، ما دمت أجد في وحدتي كل اللواتي والذين كنتُهم، وكل من سوف يوماً أكون.