قدْ لا يثيرُ الكبريتُ، برائحتِه المميزةِ ولونِه الأصفرِ، أفكارًا مباشرةً حولَ العناصرِ الأساسيةِ للحياة، لكنَّه عنصرٌ لا غِنى عنه في الحياةِ كما نعرفُها.
فالكبريتُ هوَ عنصرٌ موجودٌ في العديدِ منَ الجزيئاتِ البيولوجيةِ ويؤدي عدةَ أدوارٍ حاسمةٍ في الكائناتِ الحية؛ فالكبريتُ جزءٌ لا يتجزأُ منْ بعضِ الأحماضِ الأمينية، والتي هيَ اللبِناتُ الأساسيةُ للبروتينات. كما يوجدُ الكبريتُ أيضًا في الإنزيماتِ المساعدةِ والفيتاميناتِ الضروريةِ لمختلِفِ التفاعلاتِ الأيضيةِ في الجسم. على سبيلِ المثال، يحتوي الثيامين (فيتامين ب1) على ذرةِ الكبريتِ وهوَ مركبٌ حيويٌّ لاستقلابِ الطاقة. يحتوي الإنزيمُ المساعدُ A CoA الذي يؤدي دورًا مركزيًّا في العديدِ منَ المساراتِ البيوكيميائية، على مجموعةٍ تحتوي على الكبريتِ تسمى مجموعةَ الثيول.
وتشاركُ مُركباتُ الكبريتِ في عملياتِ إزالةِ السمومِ من الجسم. يستخدمُ الكبدُ جزيئاتٍ تحتوي على الكبريتِ للمساعدةِ في تحييدِ السمومِ وإزالتِها منَ الجسم. الجلوتاثيون، وهو ثلاثي الببتيد يتكونُ منْ ثلاثةِ أحماضٍ أمينية (بما في ذلكَ السيستين)، هوَ أحدُ مضاداتِ الأكسدةِ المهمةِ التي تساعدُ في إزالةِ السمومِ عنْ طريقِ الارتباطِ بالموادِّ الضارةِ وتحييدِها.
تؤدي مركباتُ الكبريتِ دورًا في التنفسِ الخلوي، وهيَ العمليةُ التي تقومُ الخلايا منْ خلالِها بتوليدِ الطاقة.
وتُعَدُّ مجموعاتُ الحديدِ والكبريت، التي تحتوي على ذراتِ الحديدِ والكبريت، منَ العواملِ المساعدةِ الأساسيةِ في الإنزيماتِ المشارِكةِ في نقلِ الإلكترونِ وإنتاجِ الطاقةِ داخلَ الميتوكوندريا.
وتحتوي العديدُ منَ الفيتاميناتِ والإنزيماتِ المساعدةِ على الكبريت. على سبيلِ المثال، يحتوي البيوتين (فيتامين ب7) على الكبريتِ وَهوَ ضروريٌّ لمختلِفِ التفاعلاتِ الأيضية، بما في ذلكَ تخليقُ الأحماضِ الدهنية. بالإضافةِ إلى ذلك، يعملُ حمضُ الليبويك، وهوَ مركبٌ آخرُ يحتوي على الكبريت، كعاملٍ مساعدٍ للإنزيماتِ المشارِكةِ في استقلابِ الطاقة.
باختصارٍ؛ نعرفُ الآنَ الكثيرَ عنْ دورِ ذلكَ العنصرِ في العديدِ منَ العملياتِ البيولوجية؛ والفضلُ في تلكَ المعرفةِ يرجعُ إلى العالِمِ الأمريكيِّ "فنسنت دو فيجنود" الحاصلِ على جائزةِ نوبل الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وخمسين.
تبدأُ قصةُ حصولِ "دو فيجنود" على نوبل بالكبريت.. وتنتهي بالأوكسايتوسين.
والأوكسايتوسين الذي يُشارُ إليه غالبًا باسمِ "هرمونِ الحب" أو "هرمونِ الترابط" هوَ هرمونُ الببتيدِ الذي يحتلُّ مكانةً خاصةً في سجلاتِ الكيمياءِ الحيوية. يشاركُ ذلكَ الهرمونُ بشكلٍ وثيقٍ في مجموعةٍ منَ العملياتِ الفسيولوجيةِ والنفسية، معَ التركيزِ بشكلٍ أساسيٍّ على الترابُطِ الاجتماعي، وسلوكياتِ الأم، والوظائفِ الإنجابيةِ في كلٍّ منَ البشرِ والثدييات.
تبدأُ قصةُ اكتشافِ الأوكسايتوسين وتفكُّكِه معَ فنسنت دو فيجنود، الكيميائيِّ الذي كانَ لديهِ فضولٌ شديدٌ حولَ دورِ الكبريتِ في الجزيئاتِ البيولوجية.
في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وخمسين، حققَ "دو فيجنود" إنجازًا هائلاً منْ خلالِ عزلِ الأوكسيتوسين بنجاحٍ وتحديدِ تركيبِه الكيميائيِّ بدقة. كان هذا الإنجازُ بمنزلةِ علامةٍ بارزةٍ في مجالِ الكيمياءِ الحيوية، إذْ أصبحَ الأوكسيتوسين أولَ هرمون ببتيد يتمُّ فكُّ رموزِ تسلسلِه منَ الأحماضِ الأمينية.
وقدْ مهدَ عملُ "دو فيجنود" الرائدُ الطريقَ لفهمٍ عميقٍ لدورِ الأوكسايتوسين في فسيولوجيا الإنسانِ والثدييات. يتمُّ إنتاجُ هذا الهرمونِ الرائعِ في منطقةِ ما تحتَ المهادِ ويتمُّ إطلاقُه بواسطةِ الغدةِ النخامية، ويعملُ كناقلٍ عصبيٍّ في الدماغ. وتمتدُّ آثارُها عبرَ التجربةِ الإنسانية، وتَلامُسِ جوانبِ الترابطِ العاطفيِّ، والثقةِ، والتعاطُفِ، وعلى وجهِ الخصوص، العلاقةِ الجنسيةِ الحميمةِ والإنجاب.
كما يؤدي هذا الهرمونُ دورًا محوريًّا في الولادة، إذْ يُحفزُ انقباضاتِ الرحمِ ويُسهلُ إخراجَ حليبِ الثديِ في أثناءِ الرضاعة.
إلى جانبِ فكِّ رموزِ التركيبِ الجزيئيِّ للأوكسايتوسين، حققَ فينسنت دو فيجنود إنجازًا رائعًا آخر، فقدْ نجحَ في إنتاجِ الأوكسيتوسين منْ خلالِ وسائلَ اصطناعية. لمْ يُظهرْ هذا الأوكسيتوسين الاصطناعيُّ قوةَ الكيمياءِ في تكرارِ الجزيئاتِ البيولوجيةِ فحسب، بلْ فتحَ البابَ أيضًا أمامَ إمكانياتٍ جديدةٍ في الطب.
Hosted on Acast. See acast.com/privacy for more information.