في صغري، لما كان حد من الكبار بيقول رمضان جانا، كنت باتلفت أشوف مين عمو رمضان ده اللي جه؟ ، كان عقلي الصغير مصمم إن كل الاحتفاء والبهجة والفرح ده مش معقول يكون لحاجة .. أكيد لحد.
كان رمضان في خيالي رجل كبير، شعره ودقنه فضي بيلمعوا تحت نور الفانوس اللي شايله في إيده واللي احنا كأطفال كتحية مننا يعني بنشتري زيه عشان لما يزورنا ويلاقيه يفرح بينا.
بعدها بسنين وبعد ما كبرت شويتين تلاتة، لسه جوايا طفلة بتتخيل رمضان في صورة هذا الرجل العجوز البشوش الضاحك الكريم اللي بيلبس لبس ملون شبه الخيامية والزينات اللي بتتعلق بمناسبة قدومه في كل مكان. كنت لما اتعب واشتكي من الصيام أتخيل وشه وهو رافع حاجب وبيقوللي اجمدي أمال. ولما أتنهد بعمق مع أول رشفة ماية بعد الفطار كنت باسمع في ودني قهقهته عالية وهو بيسخر من تصرفاتي اللي زي العيال ، كنت باشوف خياله في الإشارات بيحرك راسه ويرفع عينيه لفوق لما الناس تحتك ببعض ويتلككوا ان أعصابهم بايظة عشان "الدنيا صيام"، وكنت باتخيل إيده بتطبطب على كتف كل ست واقفة في المطبخ بتسابق الزمن عشان تلحق تجهز طلبات أهل البيت اللي بيخيل لهم الجوع إنهم هياكلوا ٣ ولايم كل يوم بمجرد ما المدفع يضرب، وبيضرب معاها كف على كف وهو بيضحك بعد ما بيشوفوا الكل قايم من ع السفرة ويا دوب خلصوا الشوربة والتمر بلبن ومعلقتين رز وخلاص على كده.
السنة دي بأه متخيلة العم رمضان حاسس بالإحراج، واقف متردد ومخبي فانوسه ورا ضهره وبيخبي في هدومه الملونة وشبح ابتسامته القلقانة على وشه بيقول كتير، ونفس شعور العم رمضان أظن بيدور جوه قلوب كتير مننا السنة دي خاصة مع كل ما يدور على الحدود. و بالتحديد لأننا بنعتبر رمضان مناسبة احتفالية بتستمر ٣٠ يوم، طب إزاي نحتفل بقلب وفيه عزا عند الجيران؟ الأنوار اللي بنعلقها بينما هم بمجرد ما يحل المساء عايشين في ظلام لا ينيره إلا أنوار القنابل المتساقطة من السماء؟ إزاي هنتناقش في أحسن حلواني وآخر افتكاسات الكنافة والقطايف، وجنبنا أطفال حرفيا بيموتوا من الجوع؟ الجدالات السنوية حوالين أفضل دراما في رمضان وحوارات الصراع بين الخير والشر، والظلم والعدل، كلها تحسها صغيرة قوي جنب الدراما الحقيقية وتجبر الظلم وتعملقه وكم القصص اللي بتفتت القلب عن أطفال ونساء وشباب ورجال وعائلات كاملة كانت من كام شهر ملء السمع والبصر، بيحبوا ويتحبوا ويكافحوا ويحلموا بغد وعالم أفضل والنهاردة اختفوا على أثر وابل من القنابل وتحت أكوام من الركام.
حزن ما بعده حزن وإحراج ما بعده إحراج. لكن من ناحية تانية البعض بيعتبرها نوع من المقاومة، زي ما بنشوف عروسين بيتجوزوا في خيمة لجوء، أو أم مصممة على استمرار طفلتها في لبس فستان زاهي على الرغم من إنه الفستان الوحيد اللي نجا من قصف منزلهم اللي طلعوا منه بأعجوبة أحياء.
وبين الحزن والإحراج، والمقاومة والأمل في فرج من عند الرحمن، يمضي العم رمضان سائرا في الشوارع يحمل فانوسه رافعا عينيه وكفه للسماء هامسا: (فرجه قريب ان شاء الله)!.