نحن، بطبيعتنا، نعشق البدايات. يبهرنا ألقها النقيّ الذي لم تلوّثه وحول الواقع بعد. تثملنا احتمالاتها المفتوحة التي لم تسحقها الخيبات. يَسحُرنا مجهولها الذي يشبه، دائماً يشبه، ما لطالما حلمنا به وتُقنا إليه.
نحن نعشق البدايات، نعم. كيف لا وهي تأتي قبل الوجع، قبل الإحباط، قبل الفشل، قبل إدراكنا كم أنها مؤقتة وعابرة. كيف لا وهي "السَكرة قبل الفكرة"، والنعمة الفالتة التي تحمل معها كل الوعود المغرية والآمال الجذابة التي نصبو الى تحققها؟ نضع كل ثقلنا في البدايات. نمدحها ونسندها ونعظّمها ونحتفي بها لأننا نصدقها، بل على الأصح، لأننا نريد، بكل ما أوتينا من شغف وثقة وقدرة على الإنكار وعلى نسيان الإخفاقات السابقة، أن نصدّقها. مع كل بداية قصة نقول: "ها هي البطلة ستلتقي بالبطل وسيعيشان بسعادة الى الأبد". مع كل بداية حب نقنع أنفسنا: "هذا هو. هذه هي". ثم تجيء الحياة فتموت البطلة أو يخونها البطل أو يفترقان. تجيء الحياة فيتحول الـ"هو" أو الـ"هي" الى كابوس، أو، في أحسن الأحوال، الى شيء بلا طعم أو لون أو عبق. تجيء الحياة فتصير البدايات جثثاً. ننظر إليها ملقاة تحت أقدامنا، نتأملها بإمعان، فلا نفهم كيف أننا، في أحد الأيام، آمننا بها. لكننا، لحسن الحظ، لا نتعلّم الدرس. إذ نعاود الإيمان والتصديق والتهليل، كلما لاحت بداية جديدة في الأفق.
نحبّ البدايات ونخشى النهايات. نؤجلها، هذه النهايات، ونتجاهل حتميتها قدر ما استطعنا، مثلما نؤجل موتنا ونتجاهل حتميته، لكننا لا نستطيع اجتنابها مهما تمنينا وفعلنا. فمثلما أن البدايات تجعلنا نشتهي أن نعيش أكثر وأشدّ، فالنهايات هي دلالة أننا قد عشنا حقاً. ما يصقلنا ويصنعنا فعلاً، هي النهايات. نهايات الأفلام. نهايات الكتب. نهايات قصص الحب. نهايات الصداقات. نهايات الدروب والمراحل والتجارب والأعمار.
قال الأديب ارنست همنغواي في أحد الأيام أنه كتب نهاية روايته "وداعاً للسلاح" تسعة وثلاثين مرّة قبل أن يشعر بالرضا عنها. لا أملك ألا أفكّر أحياناً: أيا ليت تعطى لنا، نحن البشر، الفرصةُ نفسُها. لا أملك ألا أفكّر: أريد، فقط، نهاية جميلة تنتقم لي من هذه الحياة.