يقولون إنّهم تمكّنوا منكِ، وفازوا عليكِ يا بيروت. يقولون إنهم استطاعوا أنْ يحقّقوا المآرب المرجوّة من تفجيركِ، بدليل أنّ المقبرة التي تعومين فوقها هي مقبرتكِ العمومية التي تشمل الأحياء والموتى، المقيمين فيكِ والمغتربين عنكِ.
ها هي الذكرى الثالثة لتفجير الرابع من آب تطلّ علينا كما لو أنّها حصلت أمس، كما لو أنّها ستحصل غدًا. ولا شيء يمنع من حصولها اليوم وغدًا وبعد غد، ما داموا يستولون عليكِ، وما دمنا قابلين باستيلائهم عليكِ. لكنّي إذ أرى أنّهم مستتبّون الآن، ومتربّعون فوق مقبرتكِ الجماعيّة، لا أعتقد أنّهم منتصرون حقًّا، ودائمًا.
لا أعتقد، لأنّ ذلك رابع المستحيلات. وهذا الاعتقاد، ليس لقوّةٍ فينا. بل لقوّةٍ فيكِ أنتِ يا بيروت، لا يستطيعون أنْ يصلوا اليها، لاستئصالها. يمكنهم أنْ يعيدوا الكرّة، وأنْ يفجّروكِ مرّةً ثانية وثالثة ورابعة، لكنكِ لن تموتي. مكانتُكِ في الباطن، لا يمكن الولوج إليها.
هم يستطيعون أنْ يقولوا ما يشاؤون. ويستطيعون أنْ يفعلوا ما يشاؤون. يستطيعون أنْ يستولوا على السطح، على الظاهر، على المرئيّ، لكنّهم لا يستطيعون أنْ ينزلوا إلى تحت، إلى الطبقات الدفينة من وجودكِ، من معناكِ، من كيانكِ، ومن حياتكِ الداخليّة.
مضت حقباتٌ وقرونٌ، وأعاصيرُ وزلازل، واجتياحاتٌ واحتلالاتٌ، ودمارات ووصاياتٌ، لكنّها مضت جميعها، وزالت واندثرت، كما تندثر الكوابيس، وأحلام ليالي الصيف.
ألا تَرَين كيف أنّهم لا يعرفون أنْ يُديروكِ، وأنْ يتملّكوكِ، وأنْ يتعايشوا معكِ؟
ألا تَرَين أنهم، وهم في عزّ جبروتهم، لا يعرفون أنْ يشربوا قهوتكِ عند الصباح، ولا أنْ يسامروا شمسكِ عند المغيب؟
فكيف تريدينهم أنْ يصيروكِ، وكيف يريدونكِ أنْ تصيريهم؟
كلّما حاولوا، كلّما تمكّنوا، تبيّن لهم أنّكِ تفلتين من بين أصابعهم كما تنفلت الدمعة لتعيش حرّيتها وحياتها، كيفما تشاء وحيث تشاء.
غدًا يكتشفون أنّكِ مهما ناموكِ وضاجعوكِ، فلن يتمكنوا من إنجاب الأولاد منكِ.
غدًا، واليوم، وكلّ يوم، لن ينجب أمثال هؤلاء ذريّةً منكِ يا بيروت.