في الذكرى الثانية للحرب على غزة، يعود السؤال عن معنى الصمود ومعنى أن يبقى الإنسان قادرًا على الخلق وسط الدمار. فبينما تتهاوى البيوت والمسارح والمكتبات، يبقى الفن الفلسطيني شاهدًا على الجرح ومقاومًا للنسيان، يكتب ذاكرة المكان والوجع بلغة الضوء واللون والنغم.
هذه الحلقة هي شهادة على حضور الثقافة في وجه الإبادة، وعلى قدرة الإبداع أن يقول "أنا هنا" حين يحاول العالم أن يصمّ أذنيه. فالحرب التي قتلت أكثر من مئة وخمسين كاتبًا وفنانًا وأكاديميًا وموسيقيًا، ودمّرت مئات المواقع الثقافية، لم تستطع أن تطفئ شرارة الخلق ولا أن تمحو الذاكرة.
تكشف الكاتبة والباحثة رنا عناني جانبًا من هذا الدمار الثقافي في تقرير "القلم الأميركي" الذي وثّق حجم الاستهداف المنهجي للمثقفين الفلسطينيين وللمؤسسات التي كانت تحفظ هوية المدينة وذاكرتها. أرقام صادمة تروي كيف تتحول الحرب إلى مشروع لمحو الثقافة، وكيف يصبح الدفاع عن الكلمة عملاً من أعمال المقاومة.
ومن قلب غزة، يواصل الفنان التشكيلي مروان نصّار الرسم على حافة الحياة. في معرضه "أن تنجو لتشهد"، لا يقدّم لوحات بل شهادات بصرية، يرسم البحر كمرآة للذاكرة، والإنسان كنبضٍ للحياة وسط الركام. الفن بالنسبة إليه ليس ترفًا ولا تجميلًا للكارثة، بل ضرورة للبقاء، محاولة لترميم المعنى حين يفقد العالم ملامحه.
أما الموسيقي أحمد أبو عمشة، فيجعل من الموسيقى فضاءً للمقاومة البيضاء. مع جوقة "طيور غزة تغني"، يزرع في قلوب الأطفال الإيمان بأن الغناء يمكن أن يكون درعًا في وجه الخوف، وبأن الأمل فعلٌ لا شعار. أصوات الصغار تردد أناشيد الحياة، باحثة عن بارقة فرح، متشبثة بقدرتها على الحلم رغم الحصار.
شهادات ثلاث تتقاطع في نسيج واحد. من بين الركام يخرج الفن الفلسطيني كصوتٍ لا يُقهر، يحمل الذاكرة ويفتح أفقًا للإنسان. أفقٌ يقول إن النجاة لا تكتمل إلا حين تُروى، وإن البقاء يصبح أسمى حين يتحول إلى أثرٍ جميل في وجه العنف.