كان هناك كاتب شغوف يدعى روبرت لويس ستيفنسون. كان هذا الكاتب، الذي أحب الساعات الرملية والخرائط ومذاق الكلمات، يرى الفن كشيء عظيم وجميل من الخارج، لكنه كان يوقن أن وراء هذا الجمال، هناك "خواء" إذا تم التنقيب عميقًا، أو بالأحرى، "جلافة الأوتار والبكرات" التي تشكل هذا الجمال. قرر روبرت، كطفل كثير الأسئلة، أن يفكك هذا الفن، ليعرف سر السحر الذي يبهج القراء ويشكل عالم الأدب. بدأ رحلته مع اختيار الكلمات. اكتشف أن الأدب فن فريد لأن أدواته، وهي الكلمات، هي نفسها "لهجة الحياة". هذه الكلمات، التي قد تبدو جامدة ومحدودة مثل "لبنات" بناء دار حضانة، يجب على مهندس الأدب أن يبني بها قصره الفني. أدرك أن على كل كلمة وعبارة وجملة وفقرة أن تنتظم في متوالية منطقية وتنقل مضمونًا محددًا بدقة. ورأى أن أفضل الكتاب هم من يستطيعون إضفاء الحيوية والمعاني العميقة على هذه الكلمات اليومية. ثم انتقل روبرت إلى مفهوم "الشبكة" أو "النمط". تعلم أن الأدب، مثل الموسيقى، يبني أنماطًا صوتية في الزمن. كل جملة يجب أن تكون "عقدة" مؤقتة تزيد من متعة القارئ وتوضح المعنى. يجب أن تكون العبارة جذابة في حد ذاتها، مع توازن مرضي في الأصوات، وألا تكون مفاجئة أو مفرطة في الدقة. فهم أن النمط والحجة يعيشان داخل بعضهما البعض، وأن قوة النمط تكمن في إيجاز الحجة ووضوحها وطراوتها. لقد اكتشف أن الأسلوب المثالي ليس الأبسط، بل هو ما يظفر بأرفع درجة من المعنى المتضمن الأنيق. وأدرك أن الشعر، بخلاف النثر، له قواعد إيقاعية (علم العروض) تفرض عليه نمطًا. ولهذا، يرى أن كتابة الشعر المبهج أسهل من كتابة النثر الممتع، لأن النثر يتطلب "اختلاق النمط في حد ذاته، واختلاق الصعوبات أولاً قبل حلها". مع تعمق فهمه، اكتشف روبرت "محتويات العبارة". لاحظ أن الجمال يعتمد ضمنيًا على الجناس الاستهلالي والسجع، وأن الحروف الساكنة والمتحركة تريد أن تتكرر لخلق التنوع. لقد أشار إلى أمثلة من ميلتون وشكسبير لتوضيح كيف يمكن للحروف والأصوات أن تخلق "حلية موسيقية" وتنسج الجمال داخل الجمل. لكنه لاحظ أيضًا أن الإفراط في هذا قد يتحول إلى "آلة موسيقية لا تضم سوى وتر وحيد"، كما حدث مع ماكولي. لم تكن الرحلة تقتصر على الجانب الفني؛ بل امتدت إلى الأخلاق. رأى روبرت أن "أول واجب على الكاتب هو التصدي لكل الموضوعات مسلحًا بأسمى وأشرف وأجرأ روح، متسقًا مع الحقيقة". الكاتب ليس مجرد صانع للرزق، بل هو "نجم حرفة الكتابة السعيد" الذي يجمع بين اللذة والفائدة. إن الأدب، بصفته "لهجة الحياة"، يؤثر على خطاب الأمة ويشكل وعيها. يجب على الكاتب أن يتأكد من أن ما يكتبه يتوافق مع حقائق الحياة، وأن يقدم الحقيقة كاملة، حتى لو كانت محبطة، لأن "الجهر بالباطل أمر كريه دائمًا". والواجب الثاني، الأصعب، هو "التحلي بروح طيبة حين يتعرض لتلك الحقيقة". في مسيرة حياته، تأثر روبرت بكتب عظيمة. كانت روايات شكسبير وأعمال مونتين ووايتان (أوراق العشب) وهيربرت سبنسر وجورج هنري لويس وماركوس أوريليوس ووردزوورث وجورج ميريديث "مرآة لروحه"، تعلم منها عن "الكوميديا الإنسانية". أدرك أن "موهبة القراءة" ليست شائعة، وأن القارئ الحقيقي هو من يستطيع أن يرى الحقائق من زوايا متعددة، ويتقبل ما يبدو جديدًا أو باطلاً بصلف. بعد سنوات من المحاولات الفاشلة، جاءت لحظة ميل روايته الأولى "جزيرة الكنز". بدأت بفكرة بسيطة: خريطة رسمها مع صبي. أدرك روبرت أن القصة يجب أن تكون "للأولاد"، لا حاجة لعلم النفس أو الكتابة المنقحة. تحدى نفسه بأن يحول صديقًا حقيقيًا إلى شخصية قرصان، مجردًا إياه من صفاته الأجود ومحتفظًا بقوته وشجاعته. كانت هذه الرواية، التي بدأت بعنوان "طاهي البحر"، بمثابة "نقطة تحول في حياتي"، لأنها كانت أول قصة ينهيها ويكتب كلمة "النهاية" عليها. لقد تعلم أن الخريطة ليست مجرد رسم، بل هي "منجم إلهام"، وأن الكاتب يجب أن يعرف "البلاد" التي يكتب عنها، سواء كانت حقيقية أو وهمية، ككف يده. ثم جاءت رواية أخرى، "سيد بالانتري". في ليلة شديدة البرودة بساراناك، خطرت له فكرة قصة رجل "يدفن ويعود إلى الحياة مرة أخرى". هذه الفكرة تطورت لتشمل بلدانًا متعددة وشخصية "عبقرية شريرة" تختفي وتعود. اكتشف أن إلهامه يمكن أن يأتي حتى من أغاني الأطفال. وكانت قصة بالانتري، التي قامت على "وثائق عائلية قديمة"، دليلًا آخر على أن الحكايات العظيمة تنتظر فقط من يكتشفها ويصيغها. في نهاية رحلته، أدرك الكاتب أن "الواقعية" ليست مجرد التزام بالتفاصيل، بل هي جزء من جدل أكبر بين الواقعية والمثالية. الفن التمثيلي، بحد ذاته، واقعي ومثالي في آن واحد. الجمال الحقيقي يكمن في "الصياغة واستكمال الصورة" وفي حذف ما لا فائدة منه وإبراز ما هو مهم. فالفنان يجب أن ينزل إلى مستوى "الصنايعي" ليصنع منتجه من الحقائق التي تخدم أغراضًا شتى. الكاتب، الذي يتنفس الأجواء الفكرية لعصره، أكثر عرضة لـ"إثم الواقعية" من "خطيئة المثالية". وهكذا، استمر روبرت لويس ستيفنسون، الكاتب الحكيم، في رحلته، يدرك أن الأدب فن يتطلب المثابرة والجرأة الفكرية، وأن كل عمل جديد هو بمثابة "التحام جديد بين سائر قوى عقولهم". فالفن الحقيقي يمزج الجمال بالمنفعة، ويظل دائمًا دعوة للكاتب ليكون صادقًا، ومتعاطفًا، ونبيلًا في كل كلمة يخطها.