في عالمٍ واسعٍ من المعرفة، وُلِدَ كتابٌ عنوانه "كم صديقًا يحتاج إليه الشخص؟ عدد دنبار ومراوغات تطورية أخرى". كان هذا الكتابُ أشبهَ برحلةٍ استكشافيةٍ عميقةٍ في غمارِ الثقافةِ الإنسانيةِ. لقد غاصَ في بحارٍ من العلومِ المختلفةِ، منها علم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والطب، والتاريخ، والجغرافيا، والجيولوجيا، وعلم الأحياء (البيولوجيا). هدفُه لم يكن مجردَ سردٍ، بل عرضَ مفاهيمَ حديثةً في العلومِ بأسلوبٍ موضوعيٍ وعمليٍ، متناولًا قضيةَ التطورِ بكاملِ التسليمِ والاعتمادِ على الأدلةِ التي تدعمُه. رحلة كتاب في عالم الإنسان بدأت رحلةُ الكتابِ بسؤالٍ جوهريٍ يُحيرُ الكثيرَ: كمْ صديقًا يحتاجُ إليهِ الشخصُ حقًا؟. لقد أشارَ إلى أن الثورةَ الاجتماعيةَ الكبرى في السنواتِ القليلةِ الماضيةِ لم تكن حدثًا سياسيًا، بل كانت في طريقةِ تعريفِ العالمِ الاجتماعيِّ الذي نعيشُ فيه. لقد كشفَ أنَّ هناكَ عددًا سحريًا من الأصدقاءِ، ألا وهوَ رقمُ دنبارَ الشهيرُ، الذي يبلغُ حوالي 150 فردًا. هذا العددُ يمثلُ الحدَّ الأقصى للعلاقاتِ الاجتماعيةِ المستقرةِ التي يمكنُ للشخصِ الحفاظُ عليها. لم يكن الأمرُ مجردَ رقمٍ عشوائيٍ، بل هوَ انعكاسٌ لحجمِ القشرةِ المخيةِ غيرِ المحددةِ، والتي ترتبطُ بالقدرةِ على معالجةِ المعلوماتِ الاجتماعيةِ. سواءً في المجتمعاتِ التقليديةِ القبليةِ التي كانت أعدادُها تتراوحُ بينَ 120 و 150 فردًا، أو في المنظماتِ الحديثةِ وحتى الجيوشِ العسكريةِ، يظلُّ هذا العددُ ثابتًا. فالناسُ الذينَ يتجاوزونَ هذا العددَ غالبًا ما يفتقرونَ إلى المعرفةِ الشخصيةِ عن الأفرادِ. ثم انتقلَ الكتابُ ليرويَ قصةَ تطورِ الإنسانِ الطويلةَ، قصةَ "السلفِ الذي ما زالَ عالقًا بأذهاننا". لقد أوضحَ أن أدمغتنا الواسعةَ هيَ نتاجٌ لتطورٍ طبيعيٍ. تحدثَ عن كيفَ أنَّ الدماغَ البشريَّ ليسَ مُجردَ وعاءٍ لتخزينِ المعلوماتِ، بل هوَ مركزٌ للتعاملِ معَ التعقيداتِ الاجتماعيةِ. لقد غاصَ في تفاصيلِ قدرتنا على فهمِ الآخرينَ (نظريةِ العقلِ)، وكيفَ تطورتْ هذهِ القدرةُ لتمكننا من التفاعلِ ببراعةٍ معَ العالمِ المحيطِ. تتبعَ الكتابُ أثرَ التطورِ في سماتٍ بشريةٍ متعددةٍ. فمنْ ذلكَ، تفسيرُ رؤيةِ الألوانِ، وكيفَ تختلفُ بينَ الرجالِ والنساء. كما استكشفَ قدرةَ بعضِ البشرِ على هضمِ الحليبِ في الكبرِ، وهيَ ظاهرةٌ تطوريةٌ نادرةٌ. وشرحَ كيفَ أنَّ العظامَ التي نجدُها اليومَ هيَ بقايا أسلافِنا القدماءِ، وكيفَ تخبرُنا عن تاريخنا الطويلِ. لقد أشارَ إلى أنَّ الإنسانَ المعاصرَ قد تطورَ من أشكالٍ سابقةٍ، وأنَّ هذا التطورَ أثرَ في كلِّ جانبٍ من جوانبِ حياتنا. لم يكتفِ الكتابُ بالأساسياتِ، بل خاضَ في "المراوغاتِ التطوريةِ الأخرى" التي تجعلُنا بشرًا فريدينَ. تحدثَ عن الضحكِ، وكيفَ أنهُ ليسَ مجردَ تعبيرٍ عن المرحِ، بل وسيلةٌ مهمةٌ للتواصلِ الاجتماعيِّ ولإطلاقِ هرموناتِ الأندورفينِ التي تساعدُ على الترابطِ. وتناولَ الموسيقى، موضحًا كيفَ يمكنُ أن تكونَ قد تطورتْ كشكلٍ من أشكالِ المغازلةِ والتواصلِ، وكيفَ تؤثرُ على مشاعرنا. كما كشفَ عن الدورِ الكبيرِ للتلامسِ والأوكسيتوسينِ (هرمونِ الحبِّ)، وكيفَ يساهمُ في بناءِ العلاقاتِ الحميمةِ والولاءِ. لم يغفلِ الكتابُ عن التحدياتِ التي واجهها الإنسانُ ولا يزالُ يواجهُها. لقد ناقشَ قضايا مثلَ الأمراضِ والتحدياتِ الصحيةِ، مبينًا كيفَ أنَّ التطورَ ليسَ دومًا لمصلحتِنا على المدى القصيرِ. كما تناولَ تأثيرَ النموِ السكانيِّ الهائلِ وتغيراتِ المناخِ التي أدتْ إلى انقراضِ بعضِ الأنواعِ. لكنهُ أكدَ أنَّ المعرفةَ والتعاونَ هما المفتاحُ لمواجهةِ هذهِ التحدياتِ. في نهايةِ المطافِ، لم يكن الكتابُ مجردَ مجموعةٍ من المعلوماتِ. بل دعوةً للتفكيرِ في أنفسنا كمخلوقاتٍ طبيعيةٍ، مرتبطينَ بتاريخٍ تطوريٍ طويلٍ. لقد أكدَ على أنَّ قدرتنا على التفكيرِ والتأملِ، وتراثنا الثقافيَّ، هيَ التي تميزُنا كبشرٍ. إنهُ هذا الكتابَ يدعوُنا لاستكشافِ كيفَ أصبحنا من نحنُ، وكيفَ يمكنُنا فهمُ أنفسنا وعلاقاتنا معَ العالمِ من حولنا من منظورٍ أعمقَ. إنهُ رحلةٌ مستمرةٌ في اكتشافِ الذاتِ البشريةِ، وتأكيدٌ على أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ معقدٌ ومتطورٌ، وأنَّ فهمَ هذهِ التعقيداتِ هوَ المفتاحُ لمستقبلٍ أفضلَ.