بدأت حكايتنا مع فنانة شابة موهوبة، اشتهرت برسوماتها الجميلة التي تفيض بالحياة. كانت تظن أنها وصلت إلى القمة، لكن كلمة واحدة من ناقد شهير ألقت بظلالها على كل ما صنعته: "هل لرسوماتها عمق؟". انقلبت حياة الفنانة رأسًا على عقب. بدأت رحلة مضنية للبحث عن العمق، فتخلت عن الألوان الزاهية والخطوط الواضحة، ورسمت أشياء يومية، ثم تحولت إلى رسومات بسيطة، حتى وصلت إلى نقطة الصفر، حيث أدركت أن العمق الحقيقي يكمن في العدم، في جوهر الخلق لا في شكله الظاهر. بيعت أعمالها لثري يدعى ألفريد ماركس، وماتت في صمت. كانت رحلة الفنانة هذه مجرد بداية، فسرعان ما وجدنا أنفسنا في ساحة واسعة بمدينة صاخبة، حيث كان الجماهير الغفيرة تحبس أنفاسها لمشاهدة "الصراع" الأكبر. مباراة شطرنج علنية بين ملكين متنافسين: الملك الأسود الشاب اليافع، بأسلوبه الهجومي المباشر الذي أسر قلوب الجماهير في البداية. والملك الأبيض العجوز، ذي الخبرة والحكمة، بأسلوبه المعقد الهادئ الذي يعتمد على الصبر والمناورة. كانت الحشود تراهن وتهتف، تارة للملك الأسود لقوته الظاهرة، وتارة للملك الأبيض لمناوراته الذكية التي قلبت الموازين. كل حركة كانت تثير مشاعر قوية. في النهاية، سقط الملك الأسود. لم يكن النصر سهلاً، فقد ترك الملك الأبيض الجماهير في حالة من الارتباك والتساؤل حول معنى الفوز الحقيقي. هل العمق يكمن في القوة المباشرة أم في الصبر والاستراتيجية الخفية؟. وبعيداً عن صخب الجماهير والبحث عن العمق الظاهر، قادنا القدر إلى قصة أخرى، أكثر هدوءًا وعمقًا، وهي "وصية المعلم موسارد". جان-بابتيست موسارد، سيد العطور الباريسي، توفي عن عمر يناهز الثالثة والستين. لكن وصيته لم تكن كغيرها، فقد طلب أن يُدفن في حديقة بباريس مع ألفي بذرة ورد. لم يكن هذا طلباً غريباً فحسب، بل اشترط أن يُردم قبره بتربة خاصة من "الصدف الصحراوي". تكشف تحريات الراوي أن موسارد قضى حياته في بحث محموم عن هذا الرمل الفريد، مسافرًا حول العالم من الصحراء الكبرى إلى سوريا، ومن الجزيرة العربية إلى أمريكا. كان يعتقد أن هذا الرمل يحمل "روح الصحراء"، ويمكنه حفظ العطور لآلاف السنين. لم يكن هدفه مجرد صنع عطر جديد، بل كان يسعى إلى خلق وردة جديدة لا مثيل لها تنبت من قبره، وردة تحمل سرًا عميقًا للبشرية. كان هذا العطر النهائي يمثل خلاصة حياته، ويجسد سعيه الدائم وراء العمق والخلود. بعد هذه الحكايات الثلاث التي غاصت في أعماق النفس البشرية والصراعات الخفية والبحث عن الجوهر، نجد أنفسنا أمام "ملاحظة تأملية" تتساءل عن فقدان الذاكرة الأدبية. فما الذي يجعل كتابًا أو عملًا فنيًا خالدًا؟ لماذا ينسى الناس بعض الأعمال العظيمة بينما تبقى أخرى محفورة في الذاكرة؟. يتساءل الكاتب عن طبيعة الذاكرة الأدبية وعن الأعمال التي تشكل "خط حياتنا". فهل العمق الحقيقي يكمن في التأثير الذي تتركه القصة أو الفكرة على روح القارئ، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من وعيه وذاكرته، وليس مجرد معلومة تُنسى؟. هذا الكتاب نفسه يدعونا إلى التساؤل: ما هو الكتاب الذي أثر فيك، دفعك، أحزنك للعمق، أو الذي "حدد خط حياتك"؟. وهكذا، تظل رحلة البحث عن العمق مستمرة، تتجاوز الفنانين والملوك والعلماء، لتلامس جوهر وجودنا وما يتركه كل منا في هذا العالم من أثر.