في قلب قليوب، عام 1954، ولد "ياسين"، الناجي الأول. جاء إلى الدنيا بضعف في بصره، عكس كل توقعات النساء اللاتي لقّبن أمه بـ"النحس" لموت أبنائها الخمسة قبله. لكن أمه آمنت به وحده. علّمته أن يحب نظارته التي سماها "نعمة"، وأصبحت جزءًا منه، فالحب يسهّل الطريق لكل شيء. مع تدهور بصره، زادت بصيرته، فكان يحفظ القرآن وكل ما يسمعه بذكاء خارق، وهذا ما مكّنه من دراسة الشريعة والقانون.
أصبح ياسين إمامًا لمسجد الأقمر العريق في شارع المعز. ومن منبره، لم يخشَ أحدًا، بل ظل صوته يصدح عاليًا ضد الظلم. دعوته كانت دائمًا: "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين.. واخرجنا منهم سالمين.. اللهم أصلح ولاة أمورنا". بسبب جرأته، كانت "الدبابير" (رجال الأمن) تزوره باستمرار، ويقضى فترات طويلة في "الحبس الانفرادي"، الذي اعتبره بيته الثاني، حيث الأسود، صديقه الدائم. في أحد المرات، حذره "حسن بيه" من أذية عائلته، فعاد ياسين إلى بيته. هناك، بشرته زوجته "رحمة"، التي كانت سنده وبصره وعصاه الوفية، بحملها بمعاذ، الطفل الذي طالما ناجى الله لأجله. بعد ولادة معاذ، فقد ياسين بصره تمامًا، لكن رحمة أصبحت عينيه الحقيقيتين. تقبل عمى بصمود، فالمهم أنه يرى رحمة ومعاذ.
كبر "معاذ"، الناجي الأول بعد الأول. تربى في بيت مليء بالحب والعلم، وأصبح مثقفًا وقائدًا بين زملائه في كلية الهندسة بجامعة القاهرة. مثل أبيه، لم يخشَ أحدًا في نضاله، وخاصةً في القضية الفلسطينية، مما جعله زائرًا دائمًا لمراكز المخابرات.
في إحدى ندواته الشعرية، رأى "حبيبة" وتعلّق قلبه بها، ظنًا منه أنها حب حياته. قضى شهرين يبحث عنها بعد اختفائها من الجامعة. اكتشف في النهاية من صديقتها أنها مريضة بحب شخص آخر يدعى "آرس"، وأنها لن تحب سواه. أصابه هذا الرفض بحزن عميق، فانعزل وتغير. سافر إلى أسوان مع اتحاد الطلاب في عمل خيري. هناك، التقى بـ"درويشة" أو "عرافة"، طلب منها أن تدعو له ليجد ما يبحث عنه. بعد ذلك، بدأت العرافة تظهر له في أحلامه، ممسكة بيد فتاة لا تتضح ملامحها.
بدأ بصره يضعف تدريجيًا، مثل أبيه تمامًا. كشف الطبيب أن الحالة وراثية واقترح عملية جراحية خطيرة. في خضم خوفه، رأى في حلمه وجه الفتاة التي تمسك يد العرافة بوضوح، إنها "فريدة"، صديقته المقربة. فريدة، الفتاة التي لا تشبه أحدًا. كانت تعلم عنه كل شيء، وتحتفظ بكتاباته، وتراه طفلًا كبيرًا يبكي وحيدًا. ورغم حبها له، كانت تخفي ذلك.
خضع معاذ للعملية الجراحية، ولكنها فشلت، وفقد بصره تمامًا. في لحظة يأس شديدة، حاول إبعاد فريدة عنه، ظنًا منه أنها لا تستحق البقاء مع رجل كفيف. لكن فريدة أبت، وأكدت له بحبها أنها لن تتركه أبدًا، وأنها لا ترى مستقبلًا إلا معه. ثم وضعت يده على بطنها وكشفت أنها حامل. أقسمت له أنها كانت تدعو بطفل منه في بيت الله.
منذ تلك اللحظة، استسلم معاذ لقدره بقلب مطمئن. أصبحت فريدة كل شيء بالنسبة له: عيونه، قوته، سنده، وكاتبته. صار يملي عليها كتاباته، لتصبح هي جمهورَه الوحيد ورفيقة دربه. علمته كيف يرى الجمال والإنسانية من خلالها.
في النهاية، هذا الكتاب، "كما أخبرتني العرافة"، ليس مجرد قصة عن العمى الجسدي، بل هو عن بصيرة القلب، وعن الحب الذي يتجاوز كل الصعاب. إنها قصة عن ياسين ومعاذ، الأب والابن، اللذين واجها الظلم والمرض، كل منهما بطريقته، ووجدا القوة في الحب والسند، في رحمة وفريدة. إنها رسالة بأن الحياة مليئة بالمعجزات، وأن الأمل يولد من رحم المعاناة، وأن بعض الأشخاص لا يشبهون أحدًا.. فهم فريدون.