في عامِ ثلاثةِ آلافٍ وأربعِمئةٍ قبلَ الميلاد؛ زرعَ سكانُ جنوبِ غربِ آسيا الخشخاشَ ونقلُوه إلى السومريينَ الذينَ أطلقُوا عليهِ اسمَ "نباتِ الفرح". سرعانَ ما نقلَه السومريونَ إلى الآشوريينَ؛ الذينَ نقلُوه بدورِهم إلى المصريين.
بدأَ المصريونَ القدماءُ في استكشافِ الخصائصِ الطبيةِ لتلكَ النباتات. لمْ يعرفُوا وقتَها أنَّ الخشخاشَ يحتوي على فئةٍ منَ المركباتِ العضويةِ التي تُعرفُ اليومَ باسمِ القلويداتِ والتي يُمكنُها أن تعالجَ مجموعةً واسعةً منَ الأمراض.
ظلَّ البحثُ عنْ سرِّ تمكُّنِ منتجاتِ الخشخاشِ منْ معالجةِ الألمِ ممتدًّا لفترةٍ طويلةٍ قُدرتْ بأكثرَ منْ خمسةِ آلافِ عام، وخلالَ القرنِ التاسعَ عشَرَ، بدأَ العلماءُ في تعلُّمِ كيفيةِ عزلِ الموادِّ الفعالةِ في تلكَ النباتات، القلويدات، وكانَ التحقيقُ في كيميائياتِها مستمرًّا باهتمامٍ بلا هوادة. سرعانَ ما وجدَ العلماءُ أنَّ هذهِ القلوياتِ عادةً ما تكونُ معقدةً للغايةِ في التركيب؛ إذْ يحتوي جزيءُ المورفينِ على أربعينَ ذرة، ولكلٍّ منها مكانُها المحددُ بالنسبةِ للذراتِ الأُخرى... لمْ يستطعِ العلماءُ فهمَ البنيةِ العضويةِ المعقدةِ للقلويداتِ طيلةَ عقود.
حتى كشفَ السير "روبرت روبنسون" عنِ السرِّ المخبأِ في أوراقِ الخشخاش؛ وغيرِها منَ النباتاتِ التي تحتوي على القلويدات. ليحصلَ على جائزةِ نوبل الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةٍ وأربعينَ بعدَ أنْ تمكنَ منْ كشفِ الهياكلِ الكيميائيةِ للعديدِ منْ هذهِ القلويدات، بما في ذلكَ المورفين والإستركنين، بلْ وقامَ أيضًا بتصنيعِ العديدِ منها منْ موادَّ بسيطة.
لكنْ.. ما هيَ القلويدات؟ وما هيَ أهميتُها؟
القلويداتُ هيَ مركباتٌ نشطةٌ بيولوجيًّا تُوجدُ في النباتات. تُظهِرُ نشاطًا دوائيًّا كبيرًا وتمَّ استخدامُها في الطبِّ التقليديِّ لعدةِ قرون. منْ خلالِ دراسةِ هيكلِها وتركيبِها الحيوي، يمكنُ للعلماءِ اكتسابُ نظرةٍ ثاقبةٍ على خصائصِها العلاجية، وآلياتِ عملِها. ساهمتِ اكتشافاتُ "روبنسون" في اكتشافِ عقاقيرَ جديدةٍ وتطويرِ علاجاتٍ أكثرَ فاعليةً لمختلِفِ الأمراضِ ترتكزُ على القلويدات.
فمنْ خلالِ فهمِ هياكلِها ومساراتِ التخليقِ الحيوي، تمكنَ الباحثونَ منْ تعديلِ القلويداتِ وتحسينِها لإنشاءِ مرشحاتٍ جديدةٍ للأدويةِ ذاتِ الفاعليةِ المحسّنةِ أوِ الآثارِ الجانبيةِ المنخفضة.
ولأنَّ القلويداتِ تؤدي أدوارًا متنوعةً في النباتات، وغالبًا ما تكونُ بمنزلةِ دفاعاتٍ كيميائيةٍ ضدَّ الحيواناتِ العاشبةِ أوْ مسبباتِ الأمراضِ أوِ الكائناتِ الحيةِ المنافسة؛ وفرَ اكتشافُ بنيتِها الكيميائيةِ دراسةَ آلياتِ التخليقِ الحيويِّ وتوزيعِ القلويداتِ عبرَ أنواعٍ نباتيةٍ مختلفةٍ نظرةً ثاقبةً على العلاقاتِ التطوريةِ بينَ الكائناتِ الحيةِ وتكيُّفِها معَ البيئة. ما ألقى بالضوءِ على التفاعُلاتِ البيئيةِ بينَ النباتاتِ والحيواناتِ والكائناتِ الحيةِ الدقيقة.
ولمْ يكنِ اكتشافُ هياكلِ القلويداتِ إنجازَ "روبنسون" الوحيد.
إذْ تشملُ المعالمُ البارزةُ الأخرى في مسيرةِ روبنسون اللامعةِ في الكيمياءِ العضويةِ توليفًا كاملًا للأصباغِ الحمراءِ والزرقاءِ المعقدةِ في الزهورِ والفواكهِ منْ موادَّ كيميائيةٍ أبسط، وربطَ بنيتِها بلونِها.
كما كانَ روبنسون رائدًا في العملِ على تصنيعِ هرموناتٍ جنسيةٍ ثانوية، وخلقِ نسخٍ تركيبيةٍ منْ أدويةِ البنسلين والملاريا. كما أجابَ عنِ الأسئلةِ الأساسيةِ المتعلقةِ بالطريقةِ التي تغيرُ بها الإلكتروناتُ سالبةُ الشحنةِ ترتيبَها حولَ الذراتِ في أثناءِ التفاعلاتِ العضوية.
Hosted on Acast. See acast.com/privacy for more information.