"رزق الله ع هيديك الإيام" أو "يلعن هيديك الساعة": جملتان يرددهما كثر من حولي، بمناسبة وبلا مناسبة. جملتان أفهمهما بالطبع، وأفهم الدوافع وراء قولهما، لكنهما تشعلان فيّ نار التوتر.
شخصياً، لا شيء يرهقني أكثر من الالتفات إلى الوراء. النوستالجيا؟ كلمة رومانسية لهوس عقيم. والندم؟ عبودية من نوع آخر، لا تختلف كثيراً عن النوستالجيا سوى في النبرة. كلاهما فعل اجترار لا فائدة منه. الأول يلوك اللحظات الجميلة الماضية، والثاني يضعنا باستمرار أمام أخطائنا كمرآة مشوِّهة لا خلاص منها. في الحالين، نحن مسجونون في زمن لم يعد ملكنا.
طبعاً أفهم إغراء التمسّك بالماضي عندما يكون الراهن قاسياً، وأهمية التعلّم من الزلات كي لا نكرّرها. ولكن ثمة من يصل به الأمر الى حدّ نسيان الحاضر تماماً، والعيش حصراً في الأمس.
أنا ضد الاثنين. ضد النوستالجيا وضد الندم. ضد تمجيد الأمس وكأنه جنّة قد ضاعت، وضد جلد الذات على ما فات ولا يمكننا تغييره. لأن الماضي قد مضى. نعم مضى. انتهى. تلاشى. فما نفع إعادة عرضه داخل ذاكرتنا كفيلم قديم؟ جلّ ما يؤدي اليه ذلك هو الى إلهائنا عن الحاضر، وعمّا قد يختبىء فيه من حلاوة، ولقاءات، وفرص، لا تنتظر سوى اغتنامنا لها. أما الأخطاء، فقد ارتكبناها وانتهى الأمر. تعلمنا الدرس، ولن يغير الندم فيها شيئاً، بل هو فقط يضاعفها بخطأ أسوأ، هو خطأ عجزنا عن تجاوزها. فلنسامح أنفسنا: هذا أوّل دروس التسامح وأهمها على الإطلاق.
الحياة ليست أرشيف صور نتصفحها كلما فقدنا الشهية للغد. وليست كتاب محاضر قضائية نراجع فيه بنود إداناتنا السابقة. الحياة نهر يجري. لا ينتظر. من يتوقف عند النوستالجيا يتكلّس على ضفافه. ومن يغرق في الندم، يبتلعه التيار.
أؤمن بأن النظر إلى الوراء، سواء بعين الحنين أو بعين الحسرة، هو غدر باللحظة الراهنة. هو إعلان ضمني أن الحاضر لا يكفيني، وأن المستقبل لا يغويني. وأنا أرفض هذا الغدر. أريد أن أعيش الآن وهنا، وأريد أن أعيش من أجل الغد واحتمالاته المفتوحة.
وحده الحاضر يبرّر وجودنا. وحده الغد يستحق انتباهنا. أما الباقي، مهما كان جميلاً أو بشعاً، فإلى سلة النسيان.