سبق ونشرنا في فضاء مونت كارلو الدولية هذا منذ أشهر تحليلا حول ارتداد روسيا من الدولة إلى الإمبراطورية، أي العودة تاريخيا إلى ما قبل الدولة الحديثة. وكانت من بين المؤشرات المذكورة ذلك التعويل الكبير على المليشيا في الحرب على حساب الجيش النظامي.
وها هي الأحداث التي جدت بالأمس السبت تأكد ذلك. حيث أعلنت مليشيات فاغنر تمردها على السلطة المركزية وعلى الجيش الروسي وعزمها الزحف على موسكو لولا التدخل البيلاروسي الذي توسط في حل يشوبه العديد من الغموض.
إن المتتبع للأحداث الروسية الأخيرة في حرب موسكو على أكرانيا لا يسعه إلا أن يلاحظ الدور المتعاظم لمليشيا فاغنر التي يقودها يفغيني بريغوجين على حساب الجيش الروسي النظامي. فمن مظاهر قوة الدولة الحديثة هي قدرتها على احتكار ممارسة العنف بما فيه المسلح على حساب كل التنظيمات الأخرى. غير أن تورط بوتين في الاعتداء على الدولة الأوكرانية، عسكريا وسياسيا، دفعه إلى التعويل على مليشيات موازية للدولة في بلد يريد التسويق لصورة الجيش الثاني الأكثر قوة في العالم. لكن منذ استقرار خط جبهة القتال بدى وكأن يفغيني بريكوجين يطمح إلى أكثر من المشاركة في حرب صغيرة ووجه سهامه إلى إحدى أعمدة السلطة المركزية وهي الجيش.
غير أنه لم يكتف بذلك بل وصل الأمر حد إعلان التمرد العسكري والتوجه لدخول موسكو في تحد واضح لسلطة فلاديمير يوتين. وهو إعلان خطير يهدد بتفكك الدولة الروسية في إطار منطق صراع القوى العسكرية بين المليشيات والجيش النظامي. إنه وضع متعارض مع دولة تطمح إلى بناء عالم متعدد الأقطاب لأن وضع روسيا أدنى من سرديتها حول موقعها وفعلها في الحياة الدولية.
الأغرب من كل هذا أن الخلاف الحاد بين السلطة المركزية والمليشيات انتهى على ما يبدو باتفاق رعته دولة بيلاروسيا. وهو اتفاق يزيد في تقزيم صورة روسيا وخاصة صورة رئيسها فلاديمير بوتين الذي سعى إلى بناء صورة الزعيم الوطني والدولي. فبعد سيطرة مليشيات فاغنر على عديد المدن في طريقها إلى موسكو، أعلن عن اتفاق لإنهاء التمرد وعودة المليشيات إلى مواقعها مع السماح ليفغيني بريغوجين بمغادرة البلاد دون أي متابعة قضائية. ويذكرنا هذا بحالة العديد من الدول الفقيرة التي تجد نفسها مجبرة على مهادنة قوى مسلحة تستهدف الدولة من أجل تفادي انتشار العنف والفوضى.
إن ما حصل بالأمس من تمرد في روسيا لكاشف عن هشاشة نظام بوتين المعتمد على القوة. وهو ينفي بذلك قراءة العديد من المحللين حول عالم شرقي ينهض في مواجهة الغرب. فروسيا تنهار أكثر مما تنهض.