001
﷽
الحَمْدُ لِلِّهِ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ قَدِيماً وَحَدِيثاً، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ سَارُوا فِي نُصْرَةِ دِينِهِ سَيْراً حَثِيثاً، وَعَلَى أَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ وَرِثُوا عِلْمَهُمْ ــ وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ــ أَكْرِمْ بِهِمْ وَارِثاً وَمَوْرُوثاً.
الشَّرْحُ([1]):
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلهِ، وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ:
قال رحمه الله في مقدمة بلوغ المرام: (الحَمْدُ لِلِّهِ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ قَدِيماً وَحَدِيثاً) نشرع في هذا اليوم في شرح كتاب «بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ» للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله المتوفى سنة ثمان مئة واثنتين وخمسين للهجرة.
وأما ترجمته فهو أظهر من أن يُترجَم له فهو الملقب بالحافظ، وأما كتابه هذا فهو كتاب عظيم مختصر نافع مفيد امتاز بعدة أمور:
الأمر الأول: أنه لم يقتصر على الصحيحين فقط، أو على كتب السنن فقط، بل اعتمد على أصول الكتب الحديثية، فقلَّ أن تجد حديثاً في الأحكام إلا وقد وضعه المصنف فيه.
الأمر الثاني: أنه قصر كتابه هذا على ذكر الأحكام فقط دون السيرة ودون الغزوات وغير ذلك لذلك قال: «مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ».
الأمر الثالث: امتاز كتابه ــ رحمه الله ــ بأنه يقتصر في الحديث على الشاهد؛ لذا تجد أحاديثه في الغالب قصيرة؛ ليسهل الاستدلال بها، وأيضاً تيسيراً لمن يرغب في حفظه.
الأمر الرابع: أنه في جلِّ الأحاديث – إن لم يكن كلها – يذكر درجة الحديث إذا لم يكن في الصحيحين سواء ممن يذكر تصحيحه أو تضعيفه أو إذا لم يجد ذلك هو رحمه الله يحكم على الحديث.
وقد سار رحمه الله في ترتيبه لأحاديث الأحكام على المذهب الشافعي؛ لكونه رحمه الله قد عاش في بلد انتشر فيه المذهب الشافعي فسار فيه على ذلك الترتيب.
وأما أهميته فأمران:
الأمر الأول: ذكره بأنه (وَيَسْتَعِينُ بِهِ الطَّالِبُ المُبْتَدِي).
والأمر الثاني: (وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الرَّاغِبُ المُنْتَهِي).
وثمرته، يعني ثمرة من يحفظ هذا الكتاب: يكون من بين أقرانه نابغاً.
ومقصد المصنف رحمه الله من تصنيفه أمران:
الأمر الأول: جمع الأحاديث.
الأمر الثاني – وهو الأهم -: حفظ هذا الكتاب لذلك قال: (لِيَصِيرَ مَنْ يَحْفَظُهُ).
لذا قال رحمه الله: (الحَمْدُ لِلِّهِ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ) «الحَمْدُ» الألف واللام هنا للاستغراق، والمراد بالاستغراق أي: الكل، أي: مستغرِقاً لجميع الأمور من المحامد.
وضابط «الْـ» التي للاستغراق: أنه إن وُضِعَ مكانها كلمة «كل» فهي للاستغراق، فمعنى هذه الكلمة: كل حمد فهو لله على الإطلاق.
وقوله: «الحَمْدُ» يكون الأمر قد أتي بالحمد إذا اشتمل على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ذكر محاسن المحمود مثل: الرب، تقول يا رب أنت كريم وأنت غفور، فهنا ذكر محاسنه.
الأمر الثاني: الحب لذلك المحمود مثل الرب هنا.
الأمر الثالث: التعظيم.
فإذا اشتمل الحمد على هذه الأمور الثلاثة كان حمداً لله عز وجل حقيقياً، ويجوز حمد البشر لا حمداً مطلقاً؛ لأن جميع المحامد لله. فيجوز أن تقول للبشر: أنا أحمدك على كرمك، وتقول: أحمدك على أخلاقك. ولا يجوز أن تقول للمخلوق: جميع المحامد لك أو الحمد لك.
والفرق بين الحمد والشكر أن الحمد يكون في مقابل نعمة وفي غير نعمة، أما الشكر فيكون في مقابل نعمة، مثل: شخص يعطيك مالاً فتشكره عليه، والشكر أعم من وجه آخر وهو أنه يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، أما الحمد فيكون باللسان وبالقلب ولا يكون هناك حمداً بالجوارح.
وقوله: (لِلِّهِ) مأخوذ من أَلَهَ يَأَلَهُ فهو مَأْلُوه أي: معبود، يعني: جميع المحامد لمعبودي الرب سبحانه وتعالى (عَلَى نِعَمِهِ) أي: عطاياه (الظَّاهِرَةِ) يعني: التي تُرَى، مثل ما أعطانا من الثياب والطعام والشراب، (وَالبَاطِنَةِ) أي: التي لا ترى، مثل ما أودعه الله في قلبك من الإيمان والتوكل وهكذا، (قَدِيماً) أي: التي أعطاك إياها الله عز وجل في وقت سابق، (وَحَدِيثاً) أي: ما هو أنت متلبس به من النعم الآن.
وقوله: (وَالصَّلَاةُ) الصلاة من الله: ثناءه على عبده في الملأ الأعلى، ويُصَلَّى على الأنبياء والرسل، ويجوز أن يُصَلَّى على غيرهم كما قال عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ، … اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»([2]) يعني: يا رب اثن عليهم عندك في ملأ الملائكة، (وَالسَّلَامُ) دعاء بأن الله يسلم من تدعو له من الآفات والشرور.
وقوله: «وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» هذان خبران بمعنى الدعاء مثل: المغفور له فلان؛ هذا خبر يراد به الدعاء يعني: اللهم اغفر لفلان.
وقوله: (عَلَى نَبِيِّهِ) مأخوذ من النَّبَأ وهو الخبر، أو من النبوة والارتفاع لمقام مكان النبوة، (وَرَسُولِهِ) أي: المرسل من الله للثقلين، والفرق بين النبي والرسول ــ على القول الراجح ــ: أن الرسول: من أتى بشرع جديد، والنبي: من أتى إلى قوم يحكم بشرع من قبله؛ والدليل قوله عز وجل:قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ [المائدة: 44]، يعني: هناك أنبياء يحكمون بالتوراة مع أن التوراة أُنزلت على موسى، ونبينا محمد ﷺ نبي ورسول فأتى بشرع جديد، وأُمر ببيانه للناس.
قوله: (مُحَمَّدٍ) هذا علم على النبي عليه الصلاة والسلام يُعرف به، ولا يُعرف أنه قد سمي به أحد من قبل. «مُحَمَّدٍ» أي: قد جَمع خصالاً محمودة.
والمصنف رحمه الله دعا بأن الله يُثني في الملأ الأعلى، ويسلم من سيدعو له من كل آفة وشر لأربعة أصناف:
الصنف الأول: نبينا محمد ﷺ.
والصنف الثاني: قال: (وَآلِهِ) «الآل» إذا أطلقت وحدها فيراد بهم كل من اتبع النبي ﷺ كقوله عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ»([3]) أي: على جميع المؤمنين من أتباع محمد، وإذا أطلق «الآل» مع الصحب فالمراد بالآل هم أهل بيت النبي ﷺ من المؤمنين، والصحب هم الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي.
والصنف الثالث ــ من الذين صلى وسلم عليهم ــ: قال: (وَصَحْبِهِ) أي: الصحابة رضي الله عنهم وهم: من لقي النبي ﷺ مؤمناً به ومات على ذلك، ونعت المصنف رحمه الله هذين الصنفين ــ وهم آل النبي ﷺ من قراباته من بني هاشم المؤمنين ــ، والصحابة بقوله: (الَّذِينَ سَارُوا فِي نُصْرَةِ دِينِهِ سَيْراً حَثِيثاً) أي: نصروه نصرا سريعاً، لم يتوقفوا في نصرة الدين ولم يبخلوا بأنفسهم ولا بأموالهم في نشر الإسلام.
الصنف الرابع ــ من الذين صلى وسلم عليهم ــ قال: (وَعَلَى أَتْبَاعِهِمُ) وهم أتباع كل من سبق من الرسول ﷺ، والآل، والصحب، (الَّذِينَ وَرِثُوا عِلْمَهُمْ) يعني: العلم أتانا من الصحابة، من قرابة النبي ﷺ ومن عموم الصحابة.
ثم بين أن الآل والصحابة أخذوا العلم عن الرسل فقال: (وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)؛ لأن الصحابة وقرابة النبي ﷺ المؤمنين نقلوا لنا العلم بعد أن أخذوه من النبي ﷺ، قال: (وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ) وهذا قطعة من حديث([4])، (أَكْرِمْ بِهِمْ وَارِثاً) هذه صيغة تعجب، يعني: ما أعجب وما أكرم وما أحظى طلبة العلم الذين أخذوا ميراث الأنبياء، (وَمَوْرُوثاً) يعني: أكرم وأنعم بالذين أخذت منهم العلم من الصحابة وآل النبي ﷺ المؤمنين الذين أخذوه من النبي ﷺ.
وهو بهذا يبين لك أن كتابه مأخوذ من منهاج النبوة، ويذكرك بنعمة سلوكك لطلب العلم فقد أخذته من أفذاذ الرجال – من الآل والصحابة رضي الله عنهم -، فافرح بهذا العلم واشكر الله عز وجل على أن يسر لك العلم، وعلى أن هداك له، وادعُ ربك بأن الله ينفعك به، وأن يرزقك العمل به.
والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
([1]) درس يوم الأحد 29/12/1439 هـ.
([2]) رواه البخاري (6332 و6359)، ومسلم (1078) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
([3]) رواه البخاري (6357)، ومسلم (406)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.
([4]) رواه ابن حبان في صحيحه (88)، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (22129)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ولفظ ابن حبان: «فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً مِنْ طُرُقِ الجَنَّةِ، وَالمَلَائِكَةُ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضاً لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلَا دِرْهَماً وَأَوْرَثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».