ضيفنا الكاتب الجزائري سعيد خطيبي، وحاوره عبدالإله الصالحي عن جديده الروائي بعد صدور ترجمة روايته "نهاية الصحراء"، الصادرة عن دار نوفل هاشيت أنطوان في بيروت في "السلسلة السوداء"، الصادرة عن دار النشر الفرنسية العريقة غاليمار وأيضا روايته الأخيرة "أغالب مجرى النهر"، في هذه المقابلة يتحدث خطيبي عن روايتيه الأخيرتين، وعن تجربته في الكتابة وشغفه بالتاريخ وأدب الجريمة، وعلاقته الحميمية مع موسيقى الراي الجزائرية.
عن جديد الكاتب وروايته الأخيرة "أغالب مجرى النهر"، حدثنا قليلاً عن مخاض هذه الرواية ومحتواها؟
هذه الرواية ربما بدأت من مأساة شخصية ومن تجربة شخصية، لكنها تتطابق مع مآسي كثير من البشر، مآسي كثيرة في العالم العربي وخارجه. صديق من أعز الأصدقاء كاد أن يفقد بصره لأنه لم يتمكن من زرع قرنية، لم يجد من يتبرع له بقرنية. نعرف أن هناك قوانين تجيز هذا الأمر، هو التبرع بالأعضاء. لكن للأسف الشائعة والخرافة تحكم هذا الوضع وتؤدي إلى تمرير القوانين بالتالي. أتمنى ربما مثلما يتمنى آخرون أن نصل إلى ثقافة التبرع بالأعضاء. هذه كانت فقط نقطة البداية، لأن الحكاية أو الرواية تحكي أيضاً قصصاً متشعبة. من الصعب اختصار رواية لأن غياب ثقافة التبرع بالأعضاء يؤدي إلى شيء آخر هو سرقة الأعضاء. إذن هذه الرواية تحكي عن الموضوعين بين التبرع وبين السرقة. وتحكي كذلك كيف أن الأحياء يسرقون أمجاد الأموات.
في روايتك وأنا أتابعك منذ البدايات. لديك هوس بالتاريخ والنبش في طبقاته الكثيفة منذ "حطب سراييفو"، "40 عاماً في انتظار إيزابيل"، مروراً بـ"نهايات الصحراء"، والآن "أغالب مجرى النهر". لماذا هذا النزوع والهوس بالتاريخ؟
لأنه ببساطة التاريخ يكتبه الأدب وليس المؤرخون. المؤرخ بوسعه أن يكتب تاريخاً لكنه يظل تاريخاً جامداً. هو تاريخ الأحداث. هو تاريخ الوقائع. هو تاريخ يحكي عن اليوم والشهر والسنة. بينما الأدب يعيد للتاريخ إنسانيته. أنا أثق في الأدب. لا أثق في المؤرخ. أثق في الكاتب. لا أثق في كتب التاريخ. بالتالي البحث في هذا التاريخ ليس المعنى منه هو إعادة تدوين ما حصل، ولكننا ربما ننطلق من فكرة أخرى. ماذا لو حصل عكس ما أخبرنا به المؤرخون؟ ماذا لو أن الحقيقة عكس ما نؤمن به؟ فدائماً أنا أحاول أن أقترح مسارات أو أقترح مقالات أو أقترح قراءات أخرى للتاريخ. ولكن ليس تاريخاً اعتباطياً. لكنني أبحث دائماً عن تاريخ يشابه حاضرنا لأن ما يهمني ليس الماضي. طبعاً يهمني الحاضر والمستقبل. ولكن يحصل أنه في الجزائر، مثل دول عربية أخرى، أن التاريخ يكرر نفسه كل مرة. نحن نعود إلى الوراء من دون أن نشعر به. إذاً يهمني أن نستعيد من الماضي حكاية تعبر عن حالنا، تعبر عن حاضرنا، وتسمح لنا كذلك في التفكير في مستقبلنا.
هل تستنجد بالتاريخ من أجل رؤية أفضل للحاضر وربما للمستقبل؟
أكتب عن التاريخ كي لا يتكرر. أكتب عن المأساة كي لا تتكرر. ليس الغاية هو استعادة الآلام أو استعادة ما جرى، ولكن الغاية أن نتعلم أن ما جرى قد جرى وطويت صفحته. لكن لماذا يجب أن يتكرر كل مرة؟ إذاً أنا أعود للتاريخ كي أحكي عن الحاضر. يهمنا الحاضر ويهمني المستقبل. من الممكن في المستقبل أن أكتب رواية ديستوبية أو أكتب رواية من الخيال العلمي. طبعاً هذا أمر وارد كذلك. ولكن في الفترة الحالية أشعر أن تاريخ بلدي لم يكتب كما ينبغي. وتاريخ بلدي يكتبه الأدب وليس المؤرخون.
هنا أصل إلى نقطة مهمة لاحظت بأنها كانت غائبة في الحوارات التي أجريت معك. بالإضافة إلى هوسك بالتاريخ، أنت تبنيت قالب الرواية البوليسية، وفي الروايتين الأخيرتين "نهاية الصحراء" و"أغالب مجرى النهر" تستعمل أدوات الرواية البوليسية الأسلوبية، وكذلك بناء الحبكة وصياغة الشخصيات. لماذا هذا التوليف بين البوليسي والتاريخي؟
لأني لاحظت منذ سنوات أننا نعيش في زمن من العنف. تعرف أن عدد الحروب أو الصراعات التي حصلت في بداية القرن الواحد والعشرين هو ضعف الحروب أو الصراعات التي حصلت في بداية القرن العشرين. نحن نعيش في عالم عربي كذلك مضطرب. أنا أعيش في بلد مثل الجزائر الذي شهد تاريخاً مضطرباً. أظن مهما كتبنا عن الجزائر ومهما كتبنا عن العالم العربي، يوجد عنصر العنف. يعني القصد ليس فقط رواية بوليسية. الأفضل هو مصطلح أدب. الجريمة ليس القصد منه هذا. هذا التكنيك الأدبي ولكن فرضته علينا ظروف أننا نعيش فعلاً في عصر من العنف، والعنف هذا لا يوجد، أظن، أدب يحتويه أفضل من أدب الجريمة. إذن الظرف الحالي الذي نعيش فيه منذ سنوات طويلة يحتم هذا النزوع. وأظن حتى الآداب الأخرى، يعني ما يسمى الأدب العام، يتضمن عناصر أدب الجريمة. تعرف أنه تاريخياً إذا عدنا إلى نشأة الرواية في العالم سنجد مثلاً عند سرفانتس الكثير من عناصر أدب الجريمة. أنا لدي أيضاً قراءة أخرى لـ"ألف ليلة وليلة" أدب. أنا بالنسبة لي "ألف ليلة وليلة" هي من أدب الجريمة، لأننا نتحدث مثلاً عن ملك شهرزاد.
أعود إلى نقطة أخرى، أنت من مواليد مدينة بوسعادة في جنوب الجزائر. هل شكّلت هذه المدينة وعاءً أدبيًا وفكريًا لك؟ وهل هي دائمًا حاضرة في كتاباتك؟
صحيح، بوسعادة مدينة صغيرة من جنوب الجزائر، لكنها مدينة كوزموبوليتية. تخيل مثلًا، في الحي الذي أسكنه، على بعد 500 متر كان يوجد مسجد، وعلى بعد 500 متر آخر كنيسة، ثم كنيس يهودي. هذه المدينة كانت غنية بالتنوع والتاريخ، زارها كبار الكتاب مثل سكوت فيتزجيرالد وأندريه جيد، وكانت إيزابيل إيبرهارت تقيم فيها. لكن، للأسف، ومع بداية التسعينيات وما شهدته البلاد من أزمات وتطرف، فقدت بوسعادة الكثير من تاريخها وبناياتها وحتى أرشيفها. لم تعد كما كانت في ذاكرتي أو كما عشتها.
أحيانًا، عندما ألتقي أصدقاءً وأحدثهم عنها، أرى أنهم عندما يزورونها يجدون شيئًا آخر مختلفًا عن حكايتي. وهذا ما حدث مع الجزائر عمومًا، فقد تغيرت كثيرًا بسبب تلك السنوات العصيبة، حتى شعرت أننا تراجعنا قرنًا كاملًا إلى الوراء. ومع ذلك، يبقى الأدب هو الحامل لذاكرة المكان. ليس دوري وحدي، بل دور كل الكتاب أن يحافظوا على ذاكرة المكان، لأن هناك معاول تهدم سواء بسبب السياسة أو التطرف أو غيرها.
سعيد خطيبي، من المعروف أنك شغوف بالموسيقى. كتبت واحدًا من أهم الكتب عن الشاب حسني، الفنان الجزائري الراحل، ولا تزال تتابع تطورات الساحة الموسيقية في الجزائر. حدثنا قليلًا عن هذا الشغف.
الموسيقى في الجزائر ليست مجرد طرب واستماع، بل حياة موازية لواقعنا، وملجأ من القهر والحرمان. خلال العشرية السوداء، كان الحب والحلم ممنوعين، فوجدنا في الموسيقى والأغاني مهربًا من قسوة الحياة. كنت محظوظًا أنني تعرفت على كبار الفنانين والملحنين، وعرفت عائلة الشاب حسني شخصيًا. الموسيقى شكلت وجدان شعبنا، ليس في الجزائر فقط، بل في المغرب وتونس وحتى بين المهاجرين.
للأسف، هذه الموسيقى لم تكن مدونة، لأن ثقافتنا تاريخيًا كانت شفهية، والكتابة ظاهرة حديثة. لذلك، شعرت أن من واجبي توثيقها، لا لأنها موسيقى جميلة فقط، بل لأنها تمثل جزءًا من ذاكرة وهوية شعب.
أعود إلى هذه الترجمة الصادرة عن دار غاليمار، فان سعر "نهاية الصحراء"، مترجم هذا الكتاب الأستاذ لطفي نية، هو ينطق هكذا، ترجم أيضاً رواية بالمناسبة لصديقنا سمير قسيمي. هل أنت راضٍ عن هذه الترجمة؟ وكيف تم التعاون بينكما؟ هل استشارك فيما يخص بعض الأشياء في الترجمة؟
لطفي نية من أهم المترجمين، صراحة، من العربية إلى الفرنسية. الترجمة كانت ممتازة. ليس هذا رأيي ولكن رأي القراء الفرنسيين كذلك، سمعته كثيراً. هو يعرف مهنته. ممكن فقط أشياء بسيطة. ملاحظات بسيطة، ولكن عموماً كان عمله وحده وهو عمل ممتاز والترجمة كانت ممتازة.
هل التجأ إليك في بعض الصعوبات أو في بعض الأشياء الدقيقة مثلاً؟
ممكن أشياء بسيطة جداً، ليست أشياء كبيرة، ولكن على العموم، تسعة وتسعين بالمئة كان عمله. فأنا أشكره كذلك على هذه الترجمة الممتازة للرواية.
كيف اكتشفت نصك بالفرنسية؟
بعد أن هاجر إلى لغة أخرى، تنتقل لغة أخرى وكأنك تقرأه لأول مرة. ولكن أنا رأيي لا يهم في هذه النقطة، أظن رأي القراء أهم. فلما ألاحظ أن هناك إقبالاً من طرف القراء، نكون في أكثر من مكان هنا هذه الأيام الماضية، في مهرجان في الشمال. فكان يهمني تلقي القراء. وأظن أنني راضٍ جداً على القبول الذي حصلت عليه الرواية في فرنسا.
أعود إلى نقطة أخرى. أنت من مواليد بلدة أو مدينة بوسعادة في جنوب الجزائر. هل شكلت بوسعادة وعاءً أدبياً فكرياً لك؟ وهل هي دائماً حاضرة في كتاباتك؟
صحيح، هي مدينة صغيرة من جنوب مدينة كوسموبوليتية. تخيل مثلاً أن حيث أسكن، في الصحراء، على مشارف الصحراء على بعد 500 متر كان يوجد مسجد، على بعد 500 متر أخرى كنيسة، 500 متر أخرى كنيس يهودي. مدينة متنوعة وغنية بالتاريخ زارها كبار الكتاب، منهم سكوت فيتزجيرالد الأمريكي، أندريه جيد، وإيزابيل إيبرهارت.
ولكن للأسف تقريباً مع مرحلة التسعينيات وما شهدته البلاد عموماً، ليس فقط بوسعادة، من تطرف، من أزمات، فقدت كثيراً من تاريخها، فقدت من بناياتها، فقدت من أرشيفها أيضاً. فهذه المدينة كما أتخيلها وكما عشتها ليست هي الآن. أحياناً ألتقي مع أصدقاء، ممكن أحكي لهم عن هذا المكان، ولكن عندما يذهبون يجدون شيئاً آخر مختلفاً. وكذلك ما حصل مع الجزائر. الجزائر تغيرت بسبب هذه السنوات. أظن أننا تراجعنا قرناً إلى الوراء بسبب تلك العشرية السوداء، ولكن أظن يبقى الأدب هنا مكانه، أن يحافظ على الذاكرة، ألا تمحى الذاكرة، وهذا هو دور الأدب ليس فقط دوري، ولكن دور كل الكتاب، أن نحافظ على ذاكرة المكان، لأن هناك معاول أخرى تهدم المكان، سواء في السياسة أو في التطرف أو في أشياء أخرى.
سعيد خطيبي، مستحيل أن أنهي هذا الحوار الممتع والمفيد معك بدون أن أتطرق إلى شغف آخر عدا شغفك بالأدب. أنت شغوف بالموسيقى، وأنا اكتشفتك من خلال الموسيقى. كتبت واحداً من أهم الكتب عن سيرة فنان الراي المرحوم الشاب حسني. وكذلك أنت تتابع حتى الآن تطورات الساحة الفنية الجزائرية فيما يخص الموسيقى. كلمة عن موسيقى الراي
هذه كانت فكرة المترجم السلوفيني في سلوفينيا. عندما أصدروا الرواية، أصدروا معها قائمة الأغاني. حتى الموسيقى في الجزائر، نحن لدينا ليست فقط يعني استماع وطرب وكل شيء. فكانت هي حياة موازية لما هو وجودي. صحيح، أنت عندما تعيش، مثلاً، أتحدث عن جيلي في العشرية السوداء، أن الحب كان ممنوعاً، يعني الحلم كان ممنوعاً، كنا نجد هذه الأشياء في الموسيقى، في الأغاني، كنا نذهب إليها كملجأ من وحشية الواقع. ثم في مرحلة لاحقة، كنت محظوظاً أنني صادفت كبار المغنين، كبار الملحنين. كنت أعرف عائلة الشاب حسني كذلك. وبعدها بدأت الأفكار.
وجدت نفسي في وسط هذا العالم، أعرفهم جيداً. فقلت هذا العالم صنع مخيلة شعب، ليس فقط الجزائر. في المغرب أيضاً يستمع الناس للراي وفي تونس، الخ. أهم شيء أن هذه الموسيقى غير مكتوبة. تعرف أنه تاريخياً الجزائر، عندنا ثقافة شفهية لقرون طويلة وتعود عليها الناس. ظاهرة الكتابة هي ظاهرة حديثة، صراحة، مقارنة بالتاريخ الكبير للبلد. فكان من الضروري أن نكتب دون أن نوثق هذه الأشياء وذلك ما سعيت إليه. الموسيقى جميلة حين نستمع إليها، ولكن لا بد أن ندونها كي لا تضيع.
كلمة عن الشاب حسني؟
أقول ببساطة: الشاب حسني كان يعطينا الأمل، وما زال يعطينا الأمل. هو لما كان حياً، والأمل أيضاً بعد رحيله.