منذ تدشينه رسميا في التاسع عشر أكتوبر تشرين الأول عام 1922 لم ينقطع هذا المعلم الديني والحضاري الشهير في العاصمة الفرنسية عن تأدية مهمته كمنارة للإشعاع الثقافي، وكقبلة للمفكرين والفلاسفة والمثقفين من مختلف التيارات والمشارب والجنسيات، و يراهن على دوره في الحربين العالميتين والمواعيد التاريخية الكبرى في البلاد، ليؤكد على مكانته في الحياة الاجتماعية والسياسية الراهنة، كما يشكل وعلى مدى قرن من الزمن حلقة وصل بين الجاليات المسلمة وبلدانها الأصلية. فائزة مصطفى زارت هذه المؤسسة العريقة وعادت إلينا بهذا الربورتاج.
في قلب مدينة الأنوار حيث تسمع أجراس كاتدرائية نوتردام بالدائرة الباريسية الخامسة، تعلو مئذنة مسجد باريس الكبير، أحد أجمل المعالم في فرنسا وأعرقها، وفي ساحاته وحدائقه التي تتزين خاصة بمناسبة شهر مضان تتسرب أصوات المصلين، بينما تتحول قاعاته إلى ملتقى للفكر والفلسفة والأدب، وإلى مقصد للباحثين والزوار من مختلف الديانات والانتماءات والجنسيات، وفي كل المناسبات وفق ما يقوله المدير العام للمسجد الكبير محمد ونوغي لإذاعة مونت كارلو الدولية، إذ يؤكد على أن برمجة النشاطات المكثفة غير مرتبط بمناسبة دينية مثل شهر رمضان، بل هناك مواظبة على تنظيم محاضرات على مدار السنة، ويضيف: " لدينا ندوة أسبوعية بعنوان أربعاء المعرفة، كما نشرف على مسابقة جائزة أدبية كل عام، تنطلق الطبعة الثالثة منها في سبتمبر المقبل. إن عميد المسجد شمس الدين حفيز لديه مشروع ما يسمى بتكييف الخطاب الديني في فرنسا، وتم انشاء لهذا الغرض لجنة تجمع الأئمة وأعضاء المجتمع المدني وممثلي كل الأطياف الدينية الأخرى".
لا يقتصر دور المسجد الكبير في المجال الديني والثقافي فحسب، بل يقدم الدعم إلى تنظيمات المجتمع المدني والجاليات المهاجرة، لاسيما الجزائرية أكبر جالية في فرنسا، من خلال مساندة مشاريع الوصل والتنمية في البلدان الأصلية في مختلف المجالات، كما يربط حلقة وصل وتعاون بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، هذا ما صرح به عنتر بوضياف، رئيس جمعية أواصر في حديثه لإذاعة مونت كارلو الدولية: "يملك مسجدُ باريس الكبير خصوصية وتفردا، أولا لديه شبكة وطنية مهمة، تجمع أربعَمائة مسجد موجودين في كل أنحاء فرنسا، إلى جانب تنسيقه مع باقي مساجد أوروبا، وبالتالي نحن نستفيد من هذه الشبكة وحلقة الوصل الواسعة من أجل تطوير عمل جمعيتنا، وهذا أمرٌ مهم على المستوى اللوجيستي. إن دعمَ مسجد باريس لنا هو أساسي بالنسبة لنجاحنا".
واظب المسجد على تنظيم مأدبة الإفطار يوميا بين جدران معرض تاريخي يخلد الذكرى المأوية لتدشين هذا المعلم، وتكريم مليوني مسلم شاركوا الى جانب فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وأيضا لاستذكار دور الإمام قدور بن غبريط في انقاذ عدد من اليهود من المحرقة في الحرب العالمية الثانية، كما يستذكر المدعوون من وزراء وسفراء ومثقفين في القاعة التي تحمل اسم الأمير عبد القادر الجزائري مآثر هذه الشخصية في إنقاذ المسيحيين في سوريا عام 1860، فالمسجد رمز للتعايش والتسامح وحوار الحضارات، وفق ما يراه رئيس جمعية "حلقة الأمير عبد القادر" ونائب رئيس بلدية "رواي مالميزون" بالضاحية الباريسية رفيق تامغاري، كما تحدث لإذاعة مونت كارلو الدولية عن رمزية تنظيم ندوات للمجتمع المدني في هذه القاعة الرئيسية: "قمنا بهذه السهرة الجميلة الطيبة التي كانت فرصة للتواصل مع عدة جمعيات وشخصيات ونخب في مجالات متعددة، فنحن نرى في قاعة تحمل اسم الأمير عبد القادر نشاطات حيوية ومشاريع، فالأمير كان شخصية للتسامح والسلام بين كل الديانات، والمسجد أيضا هم لمٌ للشمل".
يمكن لأي زائر لمسجد باريس الكبير أن يستحضر مشاهد من جوامع وقصور الأندلس، وكبرى حواضر الشرق التاريخية، حيث يتحول المكان الى منتدى للمناظرات ومنارة للإشعاع الحضاري.