في هذه الحلقة من برنامج "قرأنا لكم" نتوقف عند دراسة لافتة للمؤرخ والباحث الفرنسي دوني فيري بعنوان "الديمقراطية الفرنسية، من الثورة حتى البند 49.3" وهي دراسة تستعرض المخاطر التي تعيشها الديمقراطية الفرنسية والديمقراطيات الغربية بشكل عام بسبب التيارات الشعبوية وأيضا بسبب أخطاء سياسية يرتكبها الديمقراطيون أنفسُهم.
تتكون هذه الدراسة من جزئين. أولهما مخصص لعرض سيرورة تاريخ وتطور الديمقراطية في فرنسا والمخاض العسير والأزمات المختلفة التي عاشتها منذ الثورة الفرنسية التي أرست نظاما سياسيا جديدا تحت شعار: "حرية مساواة أخوة". أما الجزء الثاني فهو مخصص للمشهد السياسي الراهن في فرنسا في عهد الرئيس ايمانويل ماكرون والأزمة التي تعاني منها فرنسا حاليا بسبب الاحتجاجات ضد اصلاح نظام التقاعد الذي فرضه الرئيس بالقوة من خلال الالتجاء الى بند في الدستور الفرنسي يسمى "49.3" يسمح له بتجاوز المعارضة البرلمانية وبتمرير مشاريع قوانين بالقوة. لنستمع إلى المؤلف دوني فيري متحدثا عن الأسباب والسياق العام الذي دفعه إلى كتابة هذه الدراسة.
"هذا الكتاب يتمحور حول قضية الديمقراطية في فرنسا وأنا أعتبر أن الديمقراطية هي القاسم المشترك وهو الرأسمال الثمين للبلاد الذي يوحد الفرنسيين ويشغلهم خاصة في السياق السياسي الدقيق الذي تمر به فرنسا حاليا. وباعتباري مؤرخا فأنا أعتبر أن فرنسا واحدة من أقدم الديمقراطيات الغربية وتتميز بكونها كانت ولا تزال مختبرا تاريخيا للنموذج الديمقراطي منذ الثورة الفرنسية حتى الآن. أيضا من أهم الأسباب التي دفعتني نحو هذه الدراسة هو الأزمة التي تعيشها الديمقراطية الفرنسية في السنوات الأخيرة والتي بلغت أوجها مؤخرا مع الأزمة السياسية التي تمخضت عن مشروع اصلاح نظام التقاعد والصراع الحاد بين البرلمان والنقابات والرأي العام من جهة والحكومة والرئاسة من جهة أخرى.
أعتقد أن المناخ السياسي العام حاليا يعيش فعلا أزمة ديمقراطية والسبب هو شعور غالبية من الفرنسيين بأن من يمثلهم في لبرلمان غير قادرين على تمثيلهم بشكل حقيقي والدفاع عن قضايا ومطالب الناخبين خاصة بعد أن قررت الحكومة الفرنسية إقرار مشروع اصلاح نظام التقاعد بالقوة رغم أنف المعارضة اليسارية واليمينية ورغم افتقار الحكومة للغالبية البرلمانية. كما انني أعتقد أن الرئيس ماكرون ارتكب خطئا سياسيا كبيرا عندما رفض مذكرة حجب الثقة التي تقدمت بها المعارضة والتي تم التصويت عليها بالرفض بفارق تسع أصوات لا غير. وكان المسار المنطقي لهذه المذكرة هو استقالة الحكومة وفتح فصل سياسي جديد يتمثل في تشكيل حكومة جديدة ورئيس وزراء جديد. وكانت الديمقراطية ستربح كثيرا وكان المواطنون سيشعرون بأنهم في نظام سياسي يحترم آراءهم واختياراتهم. بل إن الرئيس كان سيكون الرابح الأكبر لأنه سيتوفر على هامش سياسي يتيح له البحث عن إقامة تحالفات جديدة والتوفيق بين اليمين المحافظ والوسط والتيارات الإصلاحية في المعسكر الاشتراكي والبيئي. وأكثر من كل هذا ستذهب الأمور سياسيا واجتماعيا نحو التهدئة وإيجاد حل توافقي لأزمة التقاعد أو على الأقل تعليق مشروع قانون الإصلاح وتأجيله.
أنا لا أظن أن الرئيس ماكرون يفتقد إلى الذكاء بل إلى التواضع بالأساس وهذا ما يضر به ويضر، وهذا هو الأهم، بالفرنسيين جميعا. إنه من المؤكد أن صورة الرئيس كان ستتسم ببعض الضعف لو هو أقال الحكومة ورئيستها التي اختارها بنفسه ودافع عنها بقوة لكنه أيضا كان سيقدم نفسه كرجل سياسي ديمقراطي إسوة بما فعله الرئيس الراحل شارل ديغول الذي استمع الى احتجاجات الفرنسيين في انتفاضة مايو 1968 وقال جملته الشهيرة "لقد فهمتكم". على أي إن ماكرون برفضه لمذكرة حجب الثقة فقد الكثير. فقد مصداقيته في صفوف الرأي العام وجزء كبير من الفرنسيين الذين انتخبوه وسيمارس دوره بصعوبة حتى نهاية ولايته الثانية."
هذه الدراسة التي تتناول القضايا المتعلقة بأزمات النظام الديمقراطي الفرنسي والغربي بصفة عامة جاءت في وقت مناسب تعالى فيه النقاش حول أزمة ديمقراطية في فرنسا بعد تصريح ناري أطلقه لوران بيرجي زعيم نقابة الكونفدرالية الديمقراطية الفرنسية للعمل CFDT وهي نقابة إصلاحية مناوئة لمشروع إصلاح نظام التقاعد، والذي قال فيه "إن فرنسا، بعد أن عانت من أزمة اجتماعية هي تعاني الآن من أزمة ديمقراطية".
وكل كتاب وأنتم بخير.